------------------------------------------------------------------------ القلم الحر: سليم بوخذير أختلف مع صالح الحاجة في كلّ شيء وأكاد لا أتّفق معه في شيء، و لكن ذلك لا يمنعني من أن أقرّ أنه صحفي صاحب صنعة رغم أن الصحافة هي موقف ورسالة قبل أن تكون صنعة وإتقان. قرأت الثّلاثاء 13 ابريل 2010 بطاقة "الصّريح" تحت عنوان "هل رأى اللّيل سكارى مثلنا"، فوجدتني إزاء نصّ-رغم كلّ شيء- يمثّلني. تحدّث صالح الحاجة، في ما تحدّث، عن حالة علي الجندوبي وكيف أنّه اكتشف من خلاله شخصيّة الصّحفي، وقال إنّه عرف بعد ذلك أستاذنا حسن حمادة الّذي أخذه إلى مقهى "الرّوتوند" حيث قال له إنّه عليك أن تتعامل مع الصّحافة كهواية وليس كاحتراف فإنّما الصّحافة بمثابة الشّمس نورها مدلهمّ في الأرجاء ولكن إن اقتربت منه حرقك. ومن الواضح أنّ حسن حمادة نصح الكثير منا بذلك ولكن عديد الصحافيين لم يأخذوا بنصيحته ، فقد أعجبهم النّور فإنصهروا في حُبّ الشّمس، أعني الصّحافة الّتي أكلت منهم العمر الوفير، فصاروا من أولئك السّكارى بحبّها بما دفعهم إلى الكثير من العطاء في سبيل المهنة الصحفيّة مع ما يكلّف ذلك من ثمن باهظ يدفعه الصّحفي من جسده ومن نفسه ومن عمره جزاء حبّه للمهنة، ولو أن صالح الحاجة صار بعد ذلك مديرا والمدير غير الصحفي . ولاشك أنّ هؤلاء "السكارى" بحب المهنة هم نوع نادر من الصّحافيّين قد يجوز أن نسمّيهم ب"الصّحافيّين الرّاديكاليّين"، وهم نوع من الصّحافيّين الّذين قد تراهم وقد لا تراهم وقد تسمع عنهم وقد لا تسمع ، وقد يكونون أمامك ولكنّك لا تراهم. ف"الصّحافيّون الراديكاليّون" هم صنف مختلف من الصّحافيّين، وهم أولئك الّذين صنعوا مجد الصّحافة في كلّ بلد، بل إنّهم أولئك الّذين لم يصنع غيرهم مجد الصّحافة. نعم ،هناك الصّحفيّ العادي وهناك "الصحفيّ الراديكاليّ"، فأمّا الأول فهو ذلك الشّخص الّذي يباشر واجبات الصّحفي العاديّة جدّا فيكتب وفقا للتّنظيم الإداريّ ويحرّر ما هو مطلوب منه دون أيّ ولع أو هوس بالمهنة ثمّ يمضي إلى قضاء شؤونه العائليّة أو غير العائليّة . وأمّا "الصّحفي الراديكاليّ" فهو شخص من نوع آخر خرج من رحم آخر وتربّى على تقاليد أخرى ف"الصحفيّ الراديكاليّ" وُلد من منابع أخرى وأتى من ضفاف مختلفة وعلاقته بالمهنة ليست علاقة مهنيّ ما بمهنة ما وإنّما علاقته بالمهنة الصحفيّة علاقة إنصهار وتوحّد ،علاقة غرام وحبّ وهيام لا تختلف عن علاقة العاشق بالمعشوق وعلاقة العابد بالمعبود . عرفت من هذا الصّنف النّادر كثيرين، عرفتهم نصوصا وأشخاصا، ومن الواضح أنّ هذا الزّمن الإستهلاكي لم يعد منتجا لهذا الصّنف من الصّحافيّين. عرفت هؤلاء كثيرا وعاشرتهم وكانت عيناي وأذناي وجوارحي جميعها تقترب جيّدا من كلّ واحد منهم ، واكتشفت بعد سنوات أنّ هؤلاء تجمعهم خصلة واحدة هي أنّهم جميعهم محبّون للمهنة عاشقون لها نُسّاك في محرابها . هؤلاء ليسوا ككلّ الصّحافيّين العاديّين، ليس اهتمامهم هو الرّاتب والحضور في الموعد الرسمي في مقرّات المؤسّسات الصحفيّة وترديد عبارة "تمام يا فندم"، وإنّما اهتماماتهم أكبر بكثير، اهتمامهم الأكبر هو أداء الرّسالة الإعلاميّة من نقل للخبر الصّادق ونثر للتّعليق الحر الطّليق الجريء في رحاب قد لا تتوفّر وفي أفق بعيدة قد لا تطالها أعين الرّقيب. هؤلاء ليسوا صحافيّين عاديّين، هم لا تنتهي بهم العلاقة بالمهنة الصحفيّة بمجرّد مغادرتهم لمكاتبهم بل عندئذ تبدأ مساحات أخرى لعلاقتهم بالمهنة، تدعوهم إلى طبق غداء دسم بأحد المطاعم فيستجيبون وفي الطّريق يأخذونك إلى مكتبة هنا تعرض نفائس الكتب القديمة أو إلى كشك هناك يعرض صحفا لا تعرضها كلّ الأكشاك، فنهمهم على القراءة أكبر بكثير من نهمك على الأكل والشّراب، وبعد الغداء، يمضون وتمضي ولكن صوتهم لا يغيب عن جوّالك فيهتفون لك مُحدّثينك عن آخر الأخبار وما لذّ وما طاب من آخر المقالات المسافرة إلى الضّياء البعيد. هؤلاء تدخل بيوتهم وقد تجد غرفة النّوم وطاولة الطّعام وأشياء أخرى ، ولكن قبل هذا وذاك ستجد أولويّة أعدّوها في بيوتهم هي المكتبة الّتي تعجّ عادة بنفائس الكتب وجميل الصّحف والمجلاّت. هؤلاء عندما يغادرون مكاتبهم لا ينصرفون إلى الأكل أو الشّراب وإنّما ينصرفون إلى التّلفزيون وما تجود به قرائح الصّحافيّين من أخبار، وإن لم تجدهم منصرفين إلى ذلك فهم منصرفون حتما إلى قراءة كتاب أو مطالعة صحيفة أو زيارة موقع على الأنترنت ، حتّى عندما ينامون إمّا أن يكونوا حالمين بخبر جديد أو بكتابة مقال جديد أو بصدد تلمّح حدث لم يحدث ولكنّه سيحدث حتما. هؤلاء بمثابة "المخلوقات الصحفيّة" إن جازت العبارة، الخبر لديهم قبل الخبز وقبل كل شيء، هم بمثابة النّاسكين في محراب صاحبة الجلالة، بل هم كذلك فعلا، إنّهم عشّاق المهنة بل عابدون لها. وعادة، وفي الأصل، هم كانوا قارئين جيّدين ولذلك أصبحوا كتّابا جيّدين، فالكتابة يا صاحبي هي في الأصل وفي الأساس إعادة قراءة بل هي قراءة في ثوب آخر بل قراءة بمثابة الكتابة الأخرى. وهؤلاء عادة ما يكونون بالضرورة محبين للّغة عاشقين لها عشقهم للصحافة ولذلك تجدهم عادة مالكين لناصية اللغة في ما يكتبون مقدّسين لقواعدها ونُظمها . هؤلاء يا صاحبي عادة ما تجدهم أرقى من كلّ الصّحافيّين، تقرأ لهم فتسافر مع ما ينثرونه إلى عوالم أخرى، فما ينثرونه عاده إنّما هو لآلِئ تضيء الطّريق ومحارات نادرة قادمة من أعماق الأعماق. وهؤلاء من المفترض أنه رفاق القارئ في طريقه من الظّلمة الى النّور، وهؤلاء عادة هم رفيقه عندما لا يكون الرّفيق، وهؤلاء عادة هم ضمير القارئ وصوته الآخر الذي لا يستطيع أن يوصله غيرهم . وهؤلاء عادة لا تسمع بهم محتلّين لمناصب في الهياكل المهنية الممثلة للصحافيين، بل أحيانا لا تسمع بهم حتّى أعضاء في صلب تلك الهياكل. عرفت من هؤلاء الكثيرين، عرفتهم نصوصا وأشخاصا، عرفت محمّد قلبي رحمه الله وطيّب ثراه فوجدته "صحفيّا راديكاليّا" بإمتياز محبّا للمهنة إلى درجة أنّه دفع العمر كلّه من أجل أن تستفيد المهنة ولكن لا أعتقد أنه إستفاد . عرفت أيضا نجيب الخويلدي فوجدته رغم إختلاف مقارباتنا ، صحفيّا كان ومازال تقتات منه الصّحافة رغم اعتقاده الّذي كان ومازال، أنّه هو الذي يقتات منها. عرفت من هؤلاء الكثيرين، عرفت عمّار منصور عاشق المهنة وشريفها وفارسها المغوار، وعرفت عبد الحميد القصيبي وآسيا العتروس ومحمد الحبيب السلامي عشاقا لصاحبة الجلالة وبعدهم عرفت قاسم قاسم الذي غادرنا مؤخرا ولكن لن يغادرنا طِيب نصوصه وسحره , ومن جيلي عرفت المُتيّم بالصّحافة شكري الباصومي ، وعرفت الحبيب الأسود الّذي ينام على الخبر والمقال والتّعليق ويصحو عليه وعرفت عبد الكريم سخايريّة في سنوات خلت ، وعرفت الراحل عبد الله بن مسعود الّذي مات وهو على مكتبه بصحيفة الأخبار وهو يقرأ خبرا أو ربّما كان يعيد كتابته بقلمها الساحر رحمه الله . وبين الصّحافيّين المستقليّن اليوم عرفت مجانين آخرين بمهنة الكتابة ، عرفت رشيد خشانة الذي ينام ليصحو على الصّحافة ويصحو لينام على الأخبار وما لمع من جميل المقالات ورائع النصوص . وعرفت أيضا في الصّحافة المستقلّة صحفيّا يكاد أن لا يكون غير صحفيّ يأكل من الصّحافة بل هي التي تأكل منه إسمه لطفي الحيدوري وآخر يدعى محمد الحمروني وعرفت قبلهما محمد الفوراتي . وعرفت من هؤلاء فلانا وفلانا وفلانا ، وما أقلّهم ولكن ما أروعهم من صحافيّين. هؤلاء كانت علاقتهم بالمهنة علاقة أخرى أعطوها الكثير ولكنّهم في العادة لم ينالوا الشيء الكثير ولم يكن يهمهم أن ينالوا . فقد نالوا عبق التّاريخ بما فعلوه وبما كتبوه ونالوا ضياءات المسافات البعيدة بما جادت به قرائح أقلامهم الفذّة ونالوا سبائك الذّهب بما باحت به دروب الجرأة في ما نثروه من لآلِئ على الورق وحتما هم الصّحافيّون الحقيقيّون الّذين يحترمهم القارئ، فيأتونه بالبعيد قبل الجديد، وحتما هم الباقون . لم يعد من هؤلاء الكثيرون الآن للأسف، فالصّحافة تترحّم على أرواح بعض من رحل منهم وتأسف على أنّ القليلين منهم هم فقط الباقون ، ومن الواضح أن النسق الإستهلاكي اليوم لم يعد يسمح بإنتاج نُسخ منهم ولو أنّي أعتقد أنّ التصحر الّذي نحن إزاءه لن يمنع من إنتاج ولو القليل من الأسماء الجديدة في عالم "الصّحافة الراديكاليّة" بل إنّه أنتج لنا فعلا بعض هؤلاء أحدهم يدعى إسماعيل دبارة . فهذا الفتى الذي لم يتجاوز من العمر ثلاثة وعشرين ربيعا عرفته يأكل صحافة ويشرب صحافة وينام على الصّحافة متأخّرا وينهض متأخّرا على أخبارها وتعاليقها وأبعادها الأخرى فهو صغير السن ولكن كاتب قروء وقارئ كتوب ،تماما مثلما كان أوّل "الصّحافيّين الراّديكاليّين" ومثلما سيكون آخر "الصّحافيّين الراديكاليّين"، وحتما هناك صحافيّون في كلّ الأزمان نورهم متدفّق رغم كلّ العتمة، فغدا صباح قادم رغم كلّ شيء .