الشغل - انخفاض القدرة الشرائية - البطالة - السكن التقاعد - تنامي العنف في الضواحي والمدارس - الغلاء - الضرائب - تسريح العمال...تلك هي بعض عناوين انشغالات الفرنسيين التي باتت صداعا في رأس يمين الوسط الحاكم، وأرقأ لدى الكثير من الشرائح الاجتماعية، وتذمر تكتسح العديد من فئات المجتمع الفرنسي، لتترجم عمليا في الانتخابات الفرنسية، التي جرت في دورتين، الأولى في 14 مارس 2010 والثانية في 21 من نفس الشهر، من أجل اختيار 1880 عضوا ممثلين للمجالس الإقليمية، لتفرز النتائج انتصار الاشتراكيين متحالفين مع أنصار البيئة على تحالف يمين الوسط من أجل حركة شعبية برئاسة الرئيس ساركوزي، انتصارا ساحقا كما عبّر عنه أحد نواب الحزب الحاكم " فرنسوا باروان " واعتبره أسوأ نتيجة في تاريخ اليمين منذ 30 أو 35 عامًا، حيث جاءت النتائج ب 29،38 % من الأصوات لصالح الاشتراكيين مقابل 26،18 لفائدة اليمين.
وهذه الهموم الاجتماعية المتناسلة والمتوارثة، قد فشلت الحكومات المتعاقبة سواء اليمينية أو الاشتراكية في القضاء على هذه الظواهر، أو تخفيضها إلى الحد الذي يتوافق مع طموحات المواطن، ما جعلها تتمطط وتشهد اتساعا، أدّى إلى حالة عامّة من القلق والخيبة في العديد من الأوساط، ما خلق نوعا من الاحتجاجات الميدانية في العديد من القطاعات، أبرزها النقل والتعليم والوظيفة العمومية والصحة..نتيجة تدهور القدرة الشرائية، وجمود الأجور، والإحالة المبكرة على البطالة، وتخفيض اليد العاملة، والضغط على المصاريف لصالح الموازنة العامة في شكل تقشف مقنّع، إلى جانب إعلان حالة الإفلاس لبعض الشركات، وما ينتج عنه من تسريح للعمال، وهروب عدد آخر للاستقرار في دول العالم الثالث، مستفيدة من اليد العاملة الزهيدة، والامتيازات في الإعفاء من الضرائب، التي تعتبر هنا مكلفة. وقد صعد يمين الوسط للحكم في انتخابات ماي 2007 برئاسة ساركوزي، التي أفرزت أغلبية مريحة للبرلمان، والذي وعد بتطبيق برنامج طموح، معلقا أسباب العطب على الاشتراكيين، الذين تساهلوا حسب قولهم مع عدة قضايا ذات صلة يومية بحياة الفرنسيين، منها الأمن والشغل والسكن وانتشال الفئات المسحوقة من الفقر.. وقد جاءت تلك الانتخابات بالرئيس ساركوزي الذي دخل قصر " الايليزي " في أوّل ترشح له، وبذلك بات الاتحاد من أجل حركة شعبية برئاسة ساركوزي يشكل أغلبية برلمانية، ما فتح الفرصة أمامه لتنزيل القوانين بالأغلبية، وقد اصطدم صعود يمين الوسط بظهور الأزمة المالية العالمية، ممّا تركه في مفترق دقيق، وجعل وضعه حرجا أمام هذه الكارثة الدولية، وقد حاول امتصاص هذه الرجّة، والخروج بفرنسا بأقل الأضرار. لقد اغتنم حزب الاتحاد من أجل الجمهورية فرصة وجوده في الحكم دون شريك، لتمرير العديد من القوانين الاجتماعية، والتسريع بالإصلاحات التي تتطلبها مرحلة توحّش السوق، وتشترطها تحولات الاتحاد الأوروبي في اتجاه الخوصصة، التي تعتصر الجيوب. غير أن هذه القوانين كانت تقريبا في نظر الفرنسيين تتسم بالتشدّد والضغط على النفقات، ودفع المزيد من التنازلات دون تحقيق الأماني المرجوّة، وبقيت الوضعية متأرجحة بين وعود الانتخابات، تحت لافتة كبيرة رفعها ساركوزي في برنامجه الرئاسي " اشتغل أكثر تربح أكثر". غير أن هذا العنوان بقي مقولة لم تتجسّد بالشكل الطموح على أرض الواقع، إلى جانب التشدد الأمني الذي بات واضحا في الشارع وفي العديد من مناحي الحياة. هذا وفي الضفة الأخرى فقد أفرزت هذه الانتخابات نسبة كبيرة من المقاطعين، بلغت في الدورة الأولى 52 في المائة، وفي الدورة الثانية انخفضت قليلا لتصل إلى 49.52 في المائة لتكشف موقفا سياسيا، يترجم عدم رضا شريحة واسعة من الفرنسيين تجاه أداء كل الأحزاب المتنافسة والمترشحة بجميع فصائلها، مما يشكل هاجسا لدى كل الأطراف، سواء يمينية أو اشتراكية أمام حالة المقاطعة، التي تختزن في طياتها تخوفا من عدم إقناع هذه الشرائح واستقطابها مستقبليا، مما يجعل أي انتصار انتخابي يعتبر منقوصا ومختزلا. وللإشارة فإن الفرنسيين يمتازون بنضج سياسي، يجعلهم يعطون الفرصة للمرشح كي ينفذ برنامجه، وحين يكون التطبيق ليس في مستوى الآمال، فإن الرد يكون قاسيا عبر صناديق الاقتراع، كما هو بالنسبة لهذه الانتخابات التي جعلت الاشتراكيين يفوزون ب20 إقليما من مجموع 23، وهنا يكون الفرنسيين قد بعثوا برسائل مضمونة الوصول إلى الحزب الحاكم، ورسائل علنية إلى الرئيس ساركوزي، الذي ارتج موقعه، وانخفضت شعبيته لتصل إلى أدنى مستوى في المدة الأخيرة، وتضع طموحه في إعادة الترشح للانتخابات الرئاسية سنة 2012 بين ظفريين. ومما يأخذ على الحزب الحاكم الحالي، أنه غيب القضايا الحياتية اليومية للفرنسيون، وانحاز للطبقات الثرية، ودخل في معارك من شأنها تشطير المجتمع، كتناوله لمصطلح الهوية، والهجرة والضواحي والجالية، والتي كان فيها متشددا. وقد استثمر اليسار المتملمين تجاه معالجة هذه القضايا بشكل حاد، ليوظفها لصالحه. ومن المعروف أن الاشتراكيين على عكس اليمين من أجل حركة شعبية، لهم قدرة في تحريك الشارع، واستقطاب الغضب لفائدتهم، من أجل تفعيله كرصيد انتخابي. ومن جهة أخرى فقد شهدت هذه السنين الأخيرة ظهور بعض التعبيرات الشبابية، من الفرنسيين ذوي الأصول مهاجرة، والتي بدأت تعي أهمية دورها في المشاركة الانتخابية، سواء عن طريق الإدلاء بأصواتها، أو محاولات الانخراط في الأحزاب، والتي غالبا ما تكون اشتراكية أو مجموع اليسار، الذين يعتبرون أكثر رحابة وانفتاحا من يمين الوسط في استقطاب هؤلاء الشباب، الذين يسعون إلى تحقيق شيئ من التوازن لفائدتهم، على عكس الآباء والأجداد الذين يملكون الجنسية الفرنسية، ولا يهتمون بالمشاركة الانتخابية. هذا ورغم هذا الانتصار الكبير الذي حققه الاشتراكيون على منافسهم، فإن هذا الفوز يجعل المسؤولية ضخمة لتحويل هذا الانتصار إلى فعل ميداني، يكون وفيا للوعود المقطوعة أمام الناخبين، الذين سينتظرونهم أمام صناديق الانتخابات سنة 2012 ليفصلوا بينهم وبين استمرارية الخط " الساركوزي ".