وافق الوحي الكريم الفاروق في قضية أسرى بدر كما بدا لنا في الحلقة المنصرمة. اليوم يوافقه الوحي الكريم في قضية أخرى هي : قضية حجاب الأمهات عليهن الرضوان. ورد في السيرة أن الفاروق عليه الرضوان قال للنبي الأكرم عليه الصلاة والسلام : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلولا إحتجبن. فأنزل سبحانه قوله : „ وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن “. الحجاب المذكور هنا والذي جرى عليه العمل بعد ذلك ليس هو الحجاب الذي يوضع على الوجه ( البرقع ) ولكنه الحجاب الذي يضرب بينهن وبين زوارهن في بيوتهن ولا علاقة لذلك بأصواتهن بدليل الآية ذاتها التي تبيح للناس سؤالهن بمثل ما تبيح لهن إجابتهم غير أن ذلك لم يحل دون التعرف من لدن المؤمنين بل من لدن غيرهم على الأمهات الكريمات الطاهرات ولم يكن ذلك متاحا لو كن يضربن بالحجب على وجوههن خارج بيوتهن بل كن يخرجن للصلاة سيما للبردين أي الصبح والعشاء بل يخرجن للفجر في غلسه وللعشاء الآخرة في شفقه الأخير بل بعد ذلك بسبب أنه كان عليه الصلاة والسلام يؤخر العشاء أحيانا حتى يسمع لبعضهم صوت شخير خفيف بما لا ينقض طهارة لوقوعه في موضع جلوس وليس في موضع إضطجاع.. حتى قالت بعضهن أنهن لا يعرفن عندما يكن متلفعات في مروطهن في غلس الدجى الحالك.. عرفن حتى أخذ منهن الحديث والفتوى والعلم وشاركن في الغزوات بل خرجت الأم العظيمة الكريم عائشة في معارضة سياسية في الصف المقابل للإمام علي عليهم الرضوان جميعا فما أنكر عليها صحابي واحد خروجها ذلك وهم أعلم الخلق طرا بقوله سبحانه : „ وقرن في بيوتكن “.. والأهم من ذلك أن الحجاب بتلك الصيغة المنزلية خاص بهن فمن زاد عليه في نفسه فقد إبتدع في الدين ما ليس منه وأحدث في الناشئة حادثة غلواء في الإسلام وعليه وزرها. أما من دعا إلى ذلك فقد دعا إلى بدعة محدثة والمحدث لا يؤوى في الزمان الغابر.. خصوصية البيت النبوي : غنمه بغرمه. منشأ تلك الخصوصية هي تقديم النموذج النسوي الإسلامي الرفيع للبشرية قاطبة بما ينسج لها أسوات وقدوات يعزرن القول بالعمل ليكون ذلك أبلغ في التأثير ومن شأن الناس الحاجة إلى رواحل وقيادات وزعماء بمثل ما قال الشاعر ( لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ..). ولكنها خصوصية تحت سقف الشرع الإسلامي نفسه بالغ ما بلغت التقوى فيهن بخلاف ما تدعيه الصوفية المنحرفة إنطلاقا من قالة عاهرة : مخالفة الحقيقة للشريعة.. من غروم تلك الخصوصية قوله : „ إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا “. أي : الرضى بحياة الشظف إنحيازا للنمط الحياتي الذي إختاره لنفسه عليه الصلاة والسلام عن زهد لا عن فقر. ومن غنوم ذلك قوله : „ نؤتها أجرها مرتين “. ومما يجمع الغنم والغرم معا في ثناياه : „ لستن كأحد من النساء إن إتقيتن “. لستن كذلك لأن المفروض عليكن أزيد من جهة ولستن كذلك لأن الجزاء لكن أوفر من جهة أخرى.. الأمهات قلب البيت ولكذبة الشيعة الخزي. قال سبحانه : „ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا “. جاء ذلك في وسط الآيات التي تتحدث في الأحزاب عن البيت النبوي وعن نسائه بالتحديد. لو كان تعقيبا لتمحل كذبة الشيعة ( وليس كلهم ) بأن التعقيب قد يخالف سياق المعقب عليه رغم أن السياق القرآني كله يجيء بالتعقيب شرحا للمعقب عليه وليس خارجا عن سياقه. فمن يكون أهل البيت بعد ذلك ياترى؟ سل تلاميذ المدارس الإبتدائية والأساسية عن ذلك. لا بل سل متوسطي الحمق عن ذلك؟ رغما عن ذلك الظهور الأبلج فإن كذبة الشيعة عبثوا بالمنطوق والمفهوم معا ليدخلوا من شاؤوا في أهل البيت ويخرجوا من شاؤوا. أدخلوا عليا وبنيه وأخرجوا الأمهات اللائي إنما جاء الخطاب لهن أساسا. رضي الله عنهم جميعا من ذكور وإناث بدء من رائد البيت النبوي طرا مطلقا أول مؤمن فوق البسيطة الأم العظيمة الكريمة خديجة وسائر الأمهات من بعدها وإنتهاء ببناته وأولاده عليه الصلاة والسلام وأحفاده وأصهاره .. رجل يوافقه رسول الوحي الكريم. قضية أبي هريرة. ورد في السنة الصحيحة أن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام قال : „ من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة “ وفي رواية أخرى “ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة “ وصيغ أخرى قريبة جدا تحمل المعنى ذاته.. فلما سمع أبوهريرة ذلك قال له : ألا أبشر الناس يا رسول الله؟ فلم يمنعه وأخذ منه فردة من فردتي نعله دليلا لأبي هريرة على ذلك بين الناس. وبينما كان كذلك يبشر الناس لقيه الفاروق فأمسك بتلابيبه وجاء به إليه عليه الصلاة والسلام فلما إستوضح الأمر وثبت له أن النبي عليه الصلاة والسلام أرسله قال له : خل الناس يعملون يا رسول الله لئلا يتكلوا. فقال عليه الصلاة والسلام : خلهم يعملون إذن. عبر الحادثة يقصر عنها ما في أشجار الأرض من أقلام.
1 جنوحه عليه الصلاة والسلام إلى التبشير بدل التنفير والتيسير بدل التعسير والرحمة بدل الغلظة والجفاء. كل من يعيش معه في سنته وسيرته لأيام قليلة فحسب بدأب دائب يدرك ذلك المعنى وتتبدى له شخصية محمد عليه الصلاة والسلام قوامها الرحمة المهداة والنعمة المسداة. غير أن العجب العجاب هو من أين يأتي الغلاظ الجفاة المحسوبون على الدعوة الإسلامية بذلك المنطق العجيب الغريب الذي يصوره للناس رجل دين يمسك بسيف بتار مهمته المحببة إلى قلبه إهراق الدماء وضرب الرقاب وجمع أكثر ما يمكن للنار.. لم يمانع عليه الصلاة والسلام من ذهاب أبي هريرة لتبشير الناس رحمة منه وحرصا منه على بعث الأمل وغرس أمصاله في النفوس لئلا يقنط من رحمة الرحمان قانط فيهلك. 2 جنوحه عليه الصلاة والسلام إلى الجمع والإلف والتوحيد بين كل شيء. ليس بين الناس فحسب ولكن كذلك بين الأشياء والأمور كلما كان ذلك ممكنا. يحيلنا ذلك مباشرة إلى الدرس السابق في الحلقة المنصرمة. ألف عليه الصلاة والسلام بين رأيي وزيريه الصديق والفاروق في أسرى بدر جانحا إلى الرحمة. هنا جمع بين موقفي أبي هريرة والفاروق. ذاك يريد التبشير وذلك يريد أخذ الناس بالعزائم ليجنوا أكثر ما يمكن من الأجر والخير. كل من يدرس سنته وسيرته عليه الصلاة والسلام يدرك ذلك بجلاء : جنوح عجيب إلى التأليف بدل التفريق وجنوح أعجب إلى الرحمة بدل النقمة. الأمور والأشياء في عقله عليه الصلاة والسلام أسها التناغم والتكامل والجمع عنده مقدم على كل شيء إلا إذا إستحال ذلك عقلا من مثل الجمع بين الكفر والإيمان أو الباطل والحق أو الفضيلة والرذيلة وغير ذلك... ألسنا بحاجة إلى منهاج عقلي مناسب لذلك لئلا نتنافى ونتضاد حتى تذهب ريحنا .. إذا كان ذلك هو المسلك النبوي أي : أ يقول لأهل الشورى من أصحابه في أخطر قضية أمنية عسكرية ( لو أتفقتما على أمر ما خالفتكما ).. وهو النبي الرسول سيد أولي العزم وسيد البشر من بعد ذلك قاطبة.. ب يقول للفاروق في قضية بشارة أبي هريرة ( خلهم يعملون إذن ).. وهو الموحى إليه بالحق المبين من فوق سبع سماوات .. إذا كان ذلك هو مسلكه في الدين ( بشارة أبي هريرة ) ومسلكه في الدنيا ( أسرى بدر).. أفما آن لنا أن نراجع مسلكنا في الدين ومسلكنا في الدنيا لإحتضان الآخر مهما كان مخالفا ومسالك الإحتضان كثيرة وكبيرة وغزيرة للكافر الضال فيها مقام لو كنا نقدم الدعوة ونؤخر العقوبة.. فما بالك بمن هو منا وفينا لا هو كافر ولا هو ضال .. ولكنه صاحب رأي.. ليس أكثر.. أين أنت من رجل وافقه رسول الوحي المصدوق. رجل وافقه ربه في أسرى بدر وفي حجاب الأمهات في بيوتهن. ووافقه رسول ربه في الجمع بين البشارة والعزيمة معا. مظان تقديم البشارة ومظان تقديم العزم. 1 وافق الفاروق نبيه عليه الصلاة والسلام بسبب أن الناس يومها ممتلئين بشارة ولا سبيل للقنوط على صدورهم بينما يختلف الأمر عندنا اليوم ولو قليلا أو نسبيا. 2 وافقه كذلك لأن الوحي مازال في طور النزول ورسوله حي يجتمع به الناس ويسمعون منه وأكرم بذلك بشارة لا تدانيها بشارة بخلاف الحال عندنا نحن اليوم وذلك هو معنى تشوفه لأحبابه فلما سئل قال : أنتم أصحابي وأولئك أحبابي وأجر الواحد منهم أجر خمسين منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون. 3 وافقه كذلك لأن طروء الضرورات والحاجات يومها قليل نادر بالنسبة إلى أوضاعنا الراهنة لأسباب منها تعقد الحياة وتشابك مصالحها وكثرة الخلق وإقترابهم بعضهم من بعض وما سماه عليه الصلاة والسلام في حديث آخر ( إقتراب الزمان) أي : فعل ثورات الإتصال. الفاروق فقيه الزمان والمكان. بذلك ندرك أن الفاروق إنما تفوق في الفقه ( الفقه المعني دوما هو فقه الأصول وليس الفروع لأن الفروع هي ثمرات الأصول فمن أعجبته الثمرة وغفل عن أمها فوجهه إليها حتى يكون إعجابه في محله).. لسبب عظيم جدا لا أجاوز الحد حبة خردل لو قلت بأنه سبب : العلم بإختلاف الزمان والمكان والحال والعرف والحاجة والضرورة.. وحتى لقاء قابل.. الهادي بريك ألمانيا