حزما الحقائب ووليا وجهيهما شطر عاصمة الخلافة، طالبين للراحة و الاستجمام في أرض قد يطيب فيها المقام، بعد أن بلغا منهما الجهد والكلل مبلغا عظيما. وبعد أيام من الفسحة والتجوال و نيل نصيب من الاستجمام، حان وقت العودة إلى أرض "الإقامة". و بعد إتمام الإجراءات وفحص الجوازات جلسا في قاعة الانتظار يترقبان موعد إقلاع الطائرة. كانت القاعة التي يجلسان فيها ممتدة فسيحة تحاذي ميدان إقلاع الطائرات و يحاذي الجانب الآخر منها بهو واسع يشق وسط المطار، يفصل بين قاعة الانتظار والبهو جدار زجاجيّ كبير. جلس الزوجان قليلا ثم انتبها إلى ضرورة أداء صلاة الفجر قبل فوات وقتها. انزوى أبو يوسف في أحد أركان القاعة، فافترش الأرض وكبر للصلاة. أما أم يوسف فبقيت في مقعدها صحبة طفلها الصغير تنتظره حتى يفرغ ليستلم الطفل وتصلي هي الأخرى. حينها مر شرطيان في البهو الملاصق لقاعة الانتظار، انتبه أحدهما إلى أبي يوسف فجعل يشير بسبابته وبيديه من وراء الزجاج بإشارات فهمت منها أم يوسف أن الشرطي يشير بالمنع للصلاة في قاعات المطار. فانتابها الشك والريبة وبدأت الهواجس تدور في رأسها، فلزمت الصمت حتى فرغ زوجها من الصلاة، وعندها طلبت منه أن يأخذ الطفل الصغير إلى الحمام، دخل الشرطي الذي كان يشير من وراء الزجاج فجال بنظره في وجوه المسافرين ثم انصرف. تأكدت أم يوسف أن الشرطي كان يبحث عن زوجها لكنها كظمت مشاعرها حتى رجع أبو يوسف مع الطفل، في تلك الأثناء لاح لهما الشرطي من جديد وراء الزجاج وما إن وقع بصره على أبي يوسف حتى ارتدّ مهرولا إلى مدخل القاعة التي يجلسان فيها فسيطر القلق على أم يوسف وازداد توترها وتسارعت دقات قلبها كلما اقترب الشرطي منهما.حينها بدأ شريط أحداث الماضي يدور في ذاكرتها، ومشاهده تتوالى. أولها منظر ذلك الشاب الذي يقتاده شرطيان إلى قسم الشرطة ووابل من اللطم واللكم ينهال عليه من كل اتجاه وحين وصلا به إلى داخل القسم طرحاه أرضا وأفرغا فيه كل ما أوتيا من نوازع الشر والعدوانية، ركلا ورفسا بالأقدام، ديست حينها كل معاني الإنسانية والكرامة حتى اضمحلت وتلاشت في تلك الأجواء المعتمة. لقد شاهدت ذلك عندماكانت فتاة يافعة ذهبت إلى قسم الشرطة لاستخراج وثيقة شخصية فشاء القدر أن يطبع في ذاكرتها مشهد اغتيال الإنسانية وإعدام الكرامة. والمشهد الثاني، جمع من تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، خرجوا في مظاهرة سلمية حاشدة تجوب شوارع المدينة للتنديد بالعدوان الأجنبي على إحدى الدول العربية. وما إن ارتفعت الأصوات بالشعارات وابتدأ المسير حتى تنادت قوات الشرطة من جميع الجهات وأمطرت المكان بوابل من قنابل الغاز المسيل للدموع وانهالت هراواتهم على كل من تطوله أيديهم من المتظاهرين أوممن ساقه القدر إلى ذلك المكان في تلك الساعة من المارة. أما من يقع تحت أيديهم فيتم اعتقاله كأم يوسف قبل أن تصير أماّ فينال النصيب الأوفى من السب والشتم بأقذع النعوت وأفحش الكلام، أما عن الضرب وفنون الإهانة وامتهان الكرامة فحدّث ولا حرج. كما كان يقع فرز الذكور من المعتقلين بتفحص ركبهم وأقدامهم ليعرف إن كانوا من المصلين، فينالون ما يليق بهم من "جزاء". وفي الساعة الواحدة صباحا جمعت الفتيات المعتقلات واقتادهن أحد أعوان الشرطة إلى بوابة المعتقل للإفراج عليهن فدفعهن إلى الخارج قائلا: "هياّ صحن وتظاهرن الآن فالوقت مناسب " وتركهن لمصائرهن في تلك الساعة المتأخرة من الليل. أما المشهد الثالث فلا يمحي من الذاكرة، ملاحقة ومتابعة في كل مكان من أجل غطاء رأسها، في الجامعة تمنع من الدخول للامتحان، وفي الشارع يتربص بها المخبرون وأعوان الظلم. نزعوا مرارا غطاء رأسها عنوة فاصبحت تمشي وتلتفت خلفها خوفا أن يتخطفها أحدهم في غفلة منها. تجربة مريرة نحتت في ذاكرتها مشاعر خوف وريبة من الشرطة وأعوانها أينما كانوا ، ختمت بهجرة اضطرارية إلى أرض الله الواسعة، كانت بعدها رحلة اسطنبول. أفاقت من هذه الغفوة في متاهات الذاكرة على وقع خطوات الشرطي وهو يقترب فتسارعت دقات قلبها حتى كاد يقفز من بين ضلوعها. فما كان منه إلا أن توجه إلى أبي يوسف بكل أدب فخاطبه بمنتهى اللطف و أخبره أنه أخطأ اتجاه القبلة وأرشده إلى الاتجاه الصحيح. كم كانت دهشتها عظيمة من موقف هذا الشرطي الذي أظهر غير الذي كانت تتوقع ، كانت تظنه رمزا للتطرف العلماني ومعاداة الدين وطقوسه. لكنه بدا رفيقا بالناس ساهرا على راحتهم موجها لهم حتى في أمور دينهم. هكذا تكتسي الأمور أحيانا مظاهر تخالف جوهرها فيفهمها الخائف المرتاب على غير حقيقتها، بمنطق صاغه الخوف وشكله الألم ونحتته التجارب المريرة في أعماق الوجدان. لكن إيمان المرء بما يعتقد يبقى السدّ المنيع والحصن الحصين أمام صولات البغي و جولات الطغيان وعقيدته الملجأ والملاذ من هموم الغربة ... فطوبى للغرباء! كوثر الزروي 22 أفريل 2010