ما من شك في أن الذين رفعوا السلاح في وجه الاستعمار الفرنسي الذي كان ينعتهم ب« الفلاقة» لم يتصوروا أبدا أنهم بعدما كانوا يلاحقون غلاة الاستعماريين والمعمرين والعساكر والعملاء، سيجدون أنفسهم محل ملاحقة ومحاكمات بعد استفحال الخلاف بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف حول جدوى مواصلة الكفاح المسلح بعد اذعان فرنسا، ومنح تونس استقلالها الذاتي. ضحايا العديد من المقاومين راحوا ضحية ذلك الخلاف السياسي الذي انعدمت معه لغة الحوار، فوجد الذين انحازوا الى صف الزعيم صالح بن يوسف أنفسهم محل محاكمات قاسية وصلت إلى حد الاعدام مثلما حصل للمقاوم الطيب الزلاق الذي كان أول مقاوم ينفذ فيه حكم الاعدام بعد أشهر قليلة من الاستقلال. وكنا أفردنا حلقة لتلك المحاكمة، اتصل بنا على اثرها، أحد أفراد مجموعة الزلاق الحاج صالح بن عمار الغويلي وهو من الذين حوكموا مع مجموعة وادي مليز وقضت محكمة الجنايات العليا بسجنه خمس سنوات. دعانا الحاج صالح الغويلي الى الاطلاع على ما يحتفظ به من وثائق وما تختزنه ذاكرته عن وقائع النصف الثاني من الخمسينات وتحديدا 1955 و1956. الطيب الزلاق يحتفظ الحاج صالح الغويلي في ذاكرته بصورة الطيب الزلاق الذي كان ذا مهابة ورباطة جأش، معتدل القامة، أسمر البشرة، سريع الحركة والتنقل بين العاصمة ووادي مليز بغار الدماء. وتقول الأسطورة انه لقّب بالزلاق نسبة الى الزلاج اذ كان من عادته التخفي ما بين مقبرة الجلاز وبرج علي الرايس بعد كل ضربة يسددها لقوات الاحتلال. أما اسمه الحقيقي فهو عمر بن عمار بوعديلة الاينوبلي، وكان ذا تأثير كبير في كامل الشمال الغربي مما جعله يستميل عددا هاما من الأنصار ممن كوّنوا معه قوة ضاربة رغم الملاحقة من قبل القوات النظامية التي كان يقودها المحجوب بن علي في جهة الشمال، وقد خاضت مجموعة الزلاق العديد من المعارك جنبا إلى جنب مع المجاهدين الجزائريين. محاكمة مجموعة وادي مليز وفي جويلية 1956 حوكمت مجموعة وادي مليز في اطار سلسلة المحاكمات التي شملت العناصر اليوسفية وأمدنا الحاج صالح الغويلي بوثيقة تتضمن قائمة اسمية في الذين أحيلوا على محكمة القضاء العليا من مجموعة وادي مليز وهم: المنجي المناعي - الهادي الشريطي (10 سنوات سجنا) - صالح بن عمار الغويلي (5 سنوات) - عمار حريز (5 سنوات) - الطيب سديرة (5 سنوات) - صالح بن طاع اللّه (5 سنوات) - الحبيب بن عمر المرغمي (5 سنوات) - - الحبيب بن محمد الصالح - عمر بن رحيم المناعي (سنتان) - ابراهيم بن الجوادي وكان سائق الطيب الزلاق (10 سنوات) - مسعود بن عمر الغويلي (غادر إلى الجزائر) - علي بن خضر (5 سنوات) - منور الذهبي (5 سنوات) - عمارة بن الزهاني (5 سنوات) - عثمان بن ابراهيم (20 سنة) - الهادي بن عبد اللّه (سنتان) - علي بن صالح - الأزهاري السهيلي (5 سنوات) - عبد اللّه بن مبارك (5 سنوات) - الشاذلي بن يوسف (5 سنوات) - مصطفى بوعكاز - الشريف بن قمرة - الهادي بلعربي (5 سنوات) - بلقاسم بلحسين - بلقاسم بن عمارة توفي بالجزائر) - صالح بن طرشون - نصر بن عمر (5 سنوات) - الطاهر بن عويشة (توفي بالجائر) - الحبيب بن حسن (غادر إلى الجزائر وتوفي بها) - حسونة ولد نعيجة - الهادي الصيفي (غادرا إلى الجزائر) - حسونة ولد الهجالة (5 سنوات(. ذاكرة حيّة الحاج صالح بن عمار الغويلي ذاكرة حيّة، تشعر وأنت تستمع إليه وكأنك في قلب الأحداث وسط معمعة احدى المعارك، ويستحضر الوقائع بكل تفاصيلها وجزئياتها وقد حدثنا مطولا عن واقعة الرميلة يوم 28 جانفي 1956، رغم تقدمه في السن والأمراض التي داهمته، فهو يتّقد حيوية، وهو عندما يراجع شريط ذكرياته يقول ان حب تونس هو الذي كان يحرّك الجميع من يوسفيين وبورقيببن وأنه رغم القسوة التي عومل بها هو ورفاقه فإنه يعتبر أن ملابسات السياق التاريخي هي التي تحكمت في الجميع.