غادر، مع فراغ كرسيها الأمامي في الجناح الغربي، ضمير البيت الأبيض. مغادرتها هو الحد الفاصل في تاريخ الصحافة الاميركية، الذي يطوي نشوة المهنة وغايتها الرئيسية في محاسبة السلطة، وما يبقى بعدها مجرد هوامش وتفاهات في قاعة جيمس برايدي الصغيرة، قرب المكتب البيضاوي، حيث تتواصل يومياً محاولات الغزل بالسلطة أو طرح تساؤلات لا تقارب جوهر الأزمة الاميركية ولا تخرج عن التفكير النمطي التقليدي. بغض النظر عن التبرير أو الانتقاد لما قالته هيلين توماس، هي لا تستحق هذه النهاية لمسيرتها المهنية التي طبعت الصحافة الاميركية. وفعل إجبارها على التقاعد بحد ذاته، يمثل مؤشراً سلبياً على حرية الصحافة في الولاياتالمتحدة، خاصة في القضايا المتعلقة بإسرائيل. هيلين توماس كانت تستحق اختيار توقيت مغادرتها مسرحها المهني. دعوتها إلى الشعب اليهودي «الخروج من فلسطين» في لحظة عاطفية من تاريخ هذا النزاع هو رد فعل بديهي من صحافية عربية الأصل ولدت في العام 1920، حين كانت فلسطين هي القاعدة لا الاستثناء. وهو موقف لا يستدعي التجاهل المتعمد لإنجازات هذه الصحافية الاستثنائية. بعد هذا التصريح، ورغم اعتذارها، تعرضت توماس لحملة عشوائية من زملائها في المهنة المفترض عليهم الدفاع عنها، ليس فقط لأنها عميدتهم بل لمركزية حرية التعبير في الصحافة الأميركية. فتحت أبواب جهنم على هذه السيدة اللطيفة، التي ساعدت كل زملائها وزميلاتها على مر عقود من الزمن، يأتون إليها يومياً لاستشارة وتشجيع، ولم تغلق بابها أمام أحد. أخذت منهم القيادة، عندما تحدّت مع الرئيس الأسبق جورج بوش حول مبررات غزو العراق. كان الإعلام الاميركي حينها بكل رموزه يغازل هذه الإدارة الراحلة، ويطرح عليها أسئلة، يعطيها مواد اضافية لتبرير الغزو، قبل أن يستدرك أن الرأي العام الأميركي تحوّل ولا بد من التكيّف معه. معركة «وراثة» كرسيها الأمامي في البيت الأبيض بدأت بين «فوكس نيوز» و«بلومبرغ»، بدون فترة زمنية، على الأقل احتراماً لمسيرتها. وأسوأ ما يُرتكب بحق هيلين هو احتمال منح كرسيها الليبرالي المتحرر، إلى «فوكس نيوز». عندما احتفل الرئيس باراك اوباما بعيد ميلادها في البيت الأبيض في 2009، سألها عن أمنياتها، فكان جوابها «السلام العالمي وقانون الرعاية الصحية». حقق اوباما أمنيتها الثانية وخيّب أملها في الأولى، عند محاولة «أسطول الحرية» كسر حصار غزة. هي قالت عن بوش يوماً «إنني أغطي أسوأ رئيس في التاريخ الأميركي»، وذلك خلال حديث خاص مع صحافي شاب قام بنشر مقاله في كانون الثاني 2003. بعدها بشهرين، لم يوجه بوش الكلام لتوماس، للمرة الأولى منذ 40 عاماً، لتطرح كالعادة سؤالها الأول. فكتبت إليه رسالة اعتذار، لكنه لم يتجاوز الأمر، إلا بعد ثلاث سنوات في مؤتمر صحافي في آذار 2006، دخل تاريخ المهنة. حينها، أشاد بوش مازحاً بأداء هيلين، في حفل عشاء قامت فيه بتأدية أغنية ساخرة عن طموحات هيلاري كلينتون الرئاسية، قبل أن يطلب منها أن تطرح سؤالها، فردّت «ستتأسف على هذا الأمر». أردف قائلاً «حسناً إذاً، دعيني أسحبه». فتابعت وسألت «لماذا قمنا، فعلاً، بغزو العراق؟ كل سبب حول الحرب، قُدِّم علناً على الأقل، تبين أنه ليس صحيحاً»، قبل أن تقول إن بوش أراد غزو العراق «من اللحظة التي دخل فيها إلى البيت الأبيض». فردّ بوش «الافتراض أنني أردت الحرب، خاطئ تماماً هيلين، مع كل احترامي». حين سألتها «السفير»، في حوار أجرته معها في تشرين الثاني الماضي، كيف تريد أن تُذكر يوماً؟ ضحكت هيلين توماس طويلاً وأخذت وقتها في التفكير لتقول «أود أن أٌذكر كشخص طرح الأسئلة المهمة، وبحث عن الحقيقة». قالت حينها لزملائها العرب «إبحثوا عن الحقيقة، أحياناً قد يكون ثمنها باهظاً لكنها تستحق العناء». سنشتاق لبذلتها السوداء وطلي أظافرها بالأحمر والأساور حول ذراعيها، هذا الزي التقليدي لمن تسمى ب«البوذا الجالس»، تُحرج كل الرؤساء بالتساوي والتراضي. علقت مؤخراً على أداء الجيل الإعلامي الجديد: «ليس كل من لديه كمبيوتر محمول هو صحافي. ليس لديهم أي تدريب... وليس لديهم أي تفانٍ للحقيقة». مدرستها هي توجيه الأسئلة التي لا يتجرأ أحد على طرحها، وقول المواقف التي لا يتجرأ أحد على التعبير عنها، هي التي تبدأ كل أسئلتها بعبارتها المفضلة «لماذا». السؤال بعد ما حصل لهيلين توماس، هل من مكان في الصحافة الاميركية لانتقاد إسرائيل بغض النظر عن سقف هذا الانتقاد، وهل الانغلاق الفكري لحرمان نعوم تشومسكي من دخول إسرائيل ينتقل إلى واشنطن؟ وأين المواقف المنددة عندما يطلق اليمين الاميركي جنونه يومياً من راش ليمبو الى غلين بيك عبر «فوكس نيوز»، الذي يصف اوباما بأنه أدولف هتلر يرسل الأميركيين إلى «المحرقة».. كل هذه مواقف لا تخرج عن إجماع الانقسام الاميركي، لكن دعوة اليهود «الخروج من فلسطين» تهمة لا تغتفر ولا يضمنها الدستور الاميركي. موقف جون ستيوارت على برنامجه الكوميدي يختصر كل شيء، حين طلب من الإعلام الاميركي التفكير بتقاعد هيلين المفاجئ، قائلاً «متى دفاع أميركا الثابت عن إسرائيل بدأ يؤدي إلى تسوية على دفاعنا الثابت عن حرية التعبير؟ وهل إعلامنا يظهر عارض تحيز ضد العالم العربي ومعاناة الفلسطينيين؟». ويتطرّق ستيوارت إلى المعركة على وراثة مقعد توماس، بالقول «الأمر لا يتعلق بترتيب المقاعد، بل يتعلق بترتيب الكلمات التي تخرج من فم المراسل». وسخر من تلبية كبار الصحافيين لدعوة نائب الرئيس جو بايدن إلى حفل قرب الشاطئ، قائلا «من الجيد أن نرى السياسيين والناس الذين نعول عليهم لمساءلتهم» في علاقة حميمة. هيلين تجسد هذه العلاقة التي يجب أن تبقى متواصلة، لكن متناقضة المصالح بين السلطة والصحافة. عندما يخطئ الصحافي، لديه النزاهة الأخلاقية للإقرار بما فعله أو قاله، حتى لو كان صحيحاً، مع الاحتفاظ بحق وقدرة محاسبة السلطة فوق كل اعتبار. أما السلطة التقليدية فلا تحترف الإقرار لا بالغزو ولا بالخيارات الطائشة ولا باستغلال موقعها. هذه دروس واشنطن هذا الأسبوع، ولهذا نعشق فيها هيلين توماس.