... «فليذهبوا إلى الجحيم.. عليهم مغادرة فلسطين والعودة إلى ديارهم في بولونياوألمانياوالولاياتالمتحدة والبلاد الأخرى التي أتوا منها.. عليهم مغادرة فلسطين.. وتذكروا أن الفلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال وأن فلسطين هي أرضهم». ... بهذه الكلمات التي كان وقعها على «اللوبي الصهيوني» في أمريكا، قويا وقفت «هيلين توماس» هذه السيدة التسعينية المفعمة بروح فتية لتنطق بحقيقة انتظرت أكثر من 60 عاما من عمرها المهني لكي تعبّر عنها وتعلن موقفها المدوّي قبل أن يمضي إلى التقاعد الذي ظلت على الدوام ترفضه وتعتبره «خيانة عظمى» للصحافة والكتابة وترى فيه «وفاة مبكرة» بالنسبة إليها.. تقاعدت هيلين أو بالأحرى «أجبرت على التقاعد والوفاة المبكرة» كما تسميها وتركت مهنتها التي عشقتها لعقود عدة والتي جعلت منها الصحافية الأبرز حضورا في عمر قارب ال90 عاما.. لم ينهكها العمر ولم تدفعها مشقّة البحث عن خبر أو حدث طوال عمرها كمراسلة لوكالة اخبارية أمريكية وككاتبة عمود صحافي في صحف أمريكا المتشعبة للهروب أو التقاعس.. «استقالت» هيلين بنت لبنان التي هاجر أهلها إلى الولاياتالمتحدة كما غيرها من آلاف العرب الباحثين عن «حياة جديدة» في بلاد جديدة تمكنت عبر سنوات طويلة من أن تصبح عنوانا واِسما لامعا في كثير من الأحداث.. لكنها غادرت البيت الأبيض وهي مجبرة على ذلك بعد أن سجلت موقفا أخرجها من البيت الأبيض لكنه حتما سيدخلها التاريخ.. فقد بعفوية معهودة.. وجرأة نادرة عبرت السيدة هيلين عما جاهدت طويلا من أجل إخفائه أو حتى تجنّبه لكي لا تتهم بعدم الموضوعية وعدم الحيادية في وسط إعلامي وسياسي أمريكي تتحكّم فيه الآلة الصهيونية.. ولم تتعب «هيلين» ولم ترهقها مهنة المتاعب ولم تمنعها تجاعيد الوجه وانحناءة الظهر من الوقوف أمام أحد الحاخامات اليهود و«إفحامه» بالجرائم الصهيونية في فلسطين.. موقف كان كافيا لتشغيل كل الآلة الاعلامية والسياسية الهيودية ضدها في الولاياتالمتحدة وإطلاق سهامه نحوها قبل أن تجبر على تقديم الاستقالة بعد 57 عاما قضتها كمراسلة في البيت الأبيض حتى أصبحت عميدة الصحافيين فيه.. هذه الصحافية لم تكن رقما سهلا في معادلة الاعلام الأمريكي.. فهي عاصرت 10 رؤساء أمريكيين.. عاصرت جون كينيدي وجونسون ونيكسون وفورد وكارتر وريغان وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن وها هي تودّع البيت الأبيض في عهد أوباما.. هي التي التقطت من المضمون التحريري لتغطيات الراديو منذ أيام روزفلت عبارات محدّدة نجحت في تكريسها لعلّ أشهرها تلك العبارة التي تختتم بها «هيلين». كل مؤتمر صحفي رئاسي «شكرا سيدي الرئيس».. غير أن خاتمة التجربة الصحفية لهيلين نفسها في البيت الأبيض حلّت حين سئلت عن سبب استنكافها عن مناسبة للاحتفاء بما يسمى «التراث اليهودي».. قدمت السيدة أجوبة التاريخ لا أجوبة السياسة فنطقت باسم فلسطين ثم قالت «هذا شعب فلسطيني محتل.. وفلسطين أرضه وليس ألمانيا أو بولونيا».. وتجرأت على الكلام وعلى قول ما كان غير مسموح الهمس به في أمريكا بلاد الحرية المطلقة كما يحلو للبعض ترديد ذلك. هيلين التي ولدت لأبوين لبنانيين من أتباع بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس نسيت السياسة وهي ترد وشرد ذهنها عن مقتضيات التسوية.. تدفقت بسليقتها فاغترفت من مدركات التاريخ والجغرافيا.. وعندما استفاقت على «إعصار» من الردود التي ربما لا يقدر جيش كامل على الصمود أمامها عادت إلى السياسة فتعلقت بأهدابها لكي تستدرك.. وتعتذر.. لم تكن ابنة التسعين عاما في حاجة إلى الاعتذار.. لكن إبداءها الأسف وقولها إن ملاحظاتها على ضرورة مغادرة الاسرائيليين فلسطين لا تعكس إيمانها بأن السلام في الشرق الأوسط لن يحلّ إلا عندما تعترف كل الأطراف بضروة الاحترام المتبادل والتسامح.. لن يمحى قطّ من الأذهان دوي القنبلة التي «فجرتها» هيلين في نهاية مشوار طويل في المهنة التي عشقتها دائما.. فقد كانت تقول دائما «أنا صحافية أولا وامرأة ثانيا».. وظلت على امتداد عملها البارع تقول إن الصحافة هي أفضل مهنة في العالم لأن عليك أن تواصل التعلم باستمرار ولأن عليك أن تكون حارسا أمينا على الحقيقة تطرح الأسئلة التي لا يحبها المسؤولون وتبقى مشكّكا إلى أبعد حدود حتى ولو كان ذلك يزعج هؤلاء الذين يقبضون على قرارات السلم والحرب.. أو الحياة والموت.. لقد كتبت السيدة هيلين بجرأة.. وتكلّمت بجرأة.. ولم تكترث في تلقائيتها بمحاذير السياسة وأفخاخها ومحرّماتها.. لم تساوم ولم تجامل.. فالمساومة والمجاملة هما مصطلحان لا يوجدان في قاموسها كما ظلت تقول دائما.. كان زملاؤها يلقبونها ب«البوذا الجالس» لصفائها في الجلوس عند طرح الأسئلة لكن أسئلتها هذه أدخلت الخوف والحيرة في نفوس معظم رؤساء أمريكا الذين لا يتردّدون في وصفها ب«المحرجة» و«المشاكسة» لأنها لا تتوقف عن مناكفتهم ومطاردتهم بأسئلتها المحرجة وبنقدها اللاذع.. فقد كانت تحوّل المؤتمرات الصحفية للرؤساء الأمريكيين إلى فضاءات لمحاسبتهم وحتى توبيخهم على ولائهم لاسرائيل واحتضانهم لها وسكوتهم عن جرائمها في فلسطين.. فشكرا سيدة هيلين فموقفك حيال جرائم الصهاينة في فلسطين.. وإن أخرجك من البيت الأبيض فإنه سيبقى حكما محفوظا في التاريخ وفي وجدان كل الشرفاء والأحرار والمظلومين..