كتب المحلل الصحافي الذي عمل ضابطا للاستخبارات البريطانية في الشرق الاوسط اليستير كروك في صحيفة "نيويورك تايمز" الاميركية مقالا تحدث فيه عن النفوذ الذي كانت تتمتع به القاهرة في الشؤون العربية والدولية في الماضي وعن مدى تراجع هذا النفوذ في الوقت الحاضر. وقال ان هذا التراجع يعود للرئيس المصري محمد حسني مبارك، وان "حادث اسطول قوارب المعونة لغزة" يمثل نقطة تحول في حياة مصر وبدرجة اقل في المملكة العربية السعودية. وتقول الصحيفة الاميركية ان الرئيس مبارك يجعل اذنا من طين واخرى من عجين تجاه مشاعر التعاطف التي يبديها افراد شعبه تجاه القضية الفلسطينية في غزة، لكنها لم تستطع ان تنغلق عن سماع قرقعة طبقات الارض فيما يواجه الشرق الاوسط من تغيير. ما دفعه الى اصدار الاوامر بفتح معبر رفح الى غزة على الفور. وتضيف ان ما نشاهده اليوم هو خطوة اخرى، ربما تكون خطوة حاسمة، في انتقال ميزان القوى الاستراتيجي في الشرق الاوسط: فقضية الفلسطينيين بدأت تفلت تدريجيا من ايدي مبارك والملك عبد الله، عاهل السعودية. اذ كان الرئيسان الايراني والتركي ومعهما الرئيس السوري بشار الاسد هم الذين استوعبوا رياح التغيير. ويبدو ان مبارك يزداد عزلة ويوصف بانه المتعاون الاكثر حرصا على التعاون مع اسرائيل. وفي هذه المنطقة فان السفارات المصرية في اغلب الاحيان هدف المظاهرات الشعبية. وتقول الصحيفة الاميركية ان دوافع مبارك لتأييده العنيد لاسرائيل معروفة جيدا في المنطقة: وهي انه مقتنع بان البوابة للحصول على الضوء الاخضر من واشنطن لتمكين ابنه جمال من خلافته يقبع في تل ابيب وليس في وانشطن. ولا يحظى مبارك الا بالقدر اليسير من الدعم في الولاياتالمتحدة، واذا كانت واشنطن تتغاضى عن مبادئها الديمقراطية لكي تساند زحف جمال نحو الرئاسة في مصر، فهي تفعل ذلك لان اسرائيل تقول ان "العين المغمضة" الاميركية ضرورية لأمنها. ومن اجل هذا الغرض فان مبارك عمل على اضعاف موقف "حماس" في غزة. وقد تابع هذه السياسة على حساب الوحدة الفلسطينية – على الرغم من مبادراته المتواصلة من اجل "الوحدة". وينظر هنا الى "الوساطة" المصرية الاحادية الجانب باعتبارها جزءًا من المشكلة وليست جزءًا من اي حل فلسطيني. وعلى النقيض من ذلك، فان هذه الصورة بالذات هي التي فتحت الابواب امام تركيا وايران لانتهاز فرصة رعاية القضية الفلسطينية. غير ان خلفية رد الفعل التركي الحاد على الهجوم الاسرائيلي على القارب التركي يتمثل في تصدع اقليمي اكثر عمقا، وان هذا الاقسام ينبع من قناعة تكاد تكون دولية بفشل "مسيرة السلام" الفلسطينية الاسرائيلية. فقد تهاوت اعمدتها الانشائية : فالاسرائيليون لم يعودوا يؤمنون بان مبدأ "الارض من اجل السلام"، وهو مبدأ اوسلو، سيجلب لهم الامن. بل انهم يؤمنون بان مزيدا من الانسحاب لن يعمل الا على اقتراب صواريخ "حماس" لمسافات اقصر. كما انشرخت اعمدة اخرى من اعمدة اوسلو : اذ ان هناك قناعة بان الافتراض حتى الان "بوقف" مشروع الاستيطان الاسرائيلي والاحتمال المفترض بالموقف الاميركي في اللحظة الاخيرة فيما يتعلق بايجاد حل خاص من جانب الولاياتالمتحدة ليس الا وهما. عير ان مصر ترفض التحرك في ظل هذه الظروف المتغيرة رغم أن انتقال ميزان القوى الاقليمي نحو الجبهة الشمالية من دول الشرق الاوسط – سوريا وتركيا وايران وقطر ولبنان- بدأ يحث الخطى. وليس لدى مصر اكثر من أن تجتر ذكريات الماضي العظيم. وعلى ضوء المفاهيم المعاصرة فان نفوذها اخذ في التدهور منذ وقت من الزمن. والبطاقة الوحيدة في يد مصر هي انها الجارة الاخرى لغزة. وما اعطى مبارك موقعا قويا عهل القضايا الفلسطينية ليس الا اذعانها لحصار غزة. لكن المد الاسلامي والاقليمي سيندفع بقوة اكبر ضده بعد الاجراء الاسرائيلي ضد اسطول القوارب. وقد بدأت الجامعة العربية تتحدث عن دعم تركيا في اي اجراء قانوني ضد الهجوم الاسرائيلي على قافلة المعونة الى غزة. كما اصدرت الجامعة العربية نداء الى دول اخرى لمحاولة كسر الحصار الاسرائيلي على غزة. ولعل من المبكر القول ان هذا الحديث يحمل دلالة على نقطة تحول في سياسات الجامعة العربية. فهي لا تجد من ينظر اليها بجدية في المنطقة او في اي مكان آخر. غير ان التغير في الميزان الاستراتيجي الاقليمي هو الذي يدل على اتجاه العراب نحو الموقع الذي يمكن ان يحدث فيه التغيير الحقيقي. وقد تنظر مصر والسعودية الى ان ثمن انتقال هذه القضية الرئيسة والحساسة الى ايد غير عربية، أي ايران وتركيا، كثير التكلفة ويحمل الكثير من مشاعر الخزي. بل ان التشاؤم شبه الدولي نحو "مسيرة السلام" بين ابناء شعوبهم خلف هؤلاء القادة مكشوفين داخليا. فلقد مضى حوالي 20 عاما على هؤلاء القادة وهم يستخدمون انشغالهم ب"المسيرة" مبررا لكبح جماح المعارضة الداخلية. لكن ذلك ليس الا وسيلة فقدت سحرها. وهم يدفعون ثمن السخرية الشعبية. والمشكلة التي تواجه الرئيس مبارك : تكمن في ان يبقى مساندا للحصار وان يأمل في تكافأه اميركا بخلافة ابنه جمال. غير ان الاستهانة برياح التغيير قد تعرض بقاء جمال نفسه للخطر. وعلى اي حال فان سيطرة مصر على "الملف" الفلسطيني لن تظل كما هي مرة اخرى.