صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ح8 العلمانية... الشجرة الخبيثة في الحديقة الأمازيغة
نشر في الحوار نت يوم 15 - 06 - 2010


الظهير البربري والظاهرة الأمازيغية
الحلقة الثامنة: العلمانية... الشجرة الخبيثة في الحديقة الأمازيغة

احمد دخيسي


"لقد ضمت الأمة الإسلامية منذ القدم فلولا، اتخذت هذه الطريق الهادم مسلكا، وإن لها اليوم امتدادا وورثة، أهدافهم أوسع، ومحركاتهم الفاعلة أبين، اغترفوا من الثقافة الأجنبية... ومنهم من لم يستطع تمييزا بين الواقع الذي أفرز الثقافة التي نهل منها، وطبيعة الواقع الذي قطع دابر أصوله، واجتثت مقومات شخصه منه...

إن ما تعاني منه المجتمعات اليوم من فساد وتحلل وانعدام استقرار، يثبت أن العلمانية شر عظيم، إذ تجرد الإنسان من مقومات الكرامة... فالتركيز على صفاء الضمير والوازع الذاتي سراب لا يغني. وليس القانون الوضعي القاصر بديلا حسنا للشرع الإلهي، إلا عند متصف بالجحود... لقد جعل الله الإسلام منهجا ينظم حياة الناس سياسيها واجتماعيها واقتصاديها وفكريها."
عبد السلام الجيلاري


كانت الفصائل اليسارية في الجامعة مرحلة السبعينات وأوائل الثمانينات تعتبر نقطة قوتها هي جرأتها الإيديولوجية وطرحها "التقدمي" فيما يخص "العادات والموروث الديني البالي". فتح لها ذلك شهيتها للتطاول على عقيدة المغاربة الذين تتحدث باسمهم (حسب زعمها) من حيث لا تدري أن السم في الدسم. فأصبح بعض عناصرها يتجرأ على الإفطار في رمضان، ويفتتح حلقيات النضال الجامعي بعبارات تقدمية "مثل تحية للشيطان: الأول الذي قال لا للديكتاتورية الإلهية"، تعالى الله عن ذلك علواً، لكن بسقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي، سقطت كل المنظومة اليسارية من قلوب وعقول الناس.
أما الحركة الأمازيغية، وقد تسلل إليها عدد كثير من اليساريين، فتعتبر نفسها أكثر جرأة، بل الطرف السياسي الوحيد في المغرب القادر على طرح الخيار العلماني معتبرة أن من أهم رهاناتها الرهان حول «الطابع اللايكي للثقافة الأمازيغية الضاربة في عمق آلاف السنين من أيام ماسينسا إلى يوغرطا»(1) وأن الحركة الأمازيغية «في مجملها تضع ضمن أدبياتها النضال من أجل فصل السياسة وأمور الحكم عن الدين» تماشيا مع "المشروع الحداثي الديمقراطي الذي تسعى الحركة الأمازيغية إلى بنائه"(2)، أيضا كان من بين أهداف تأسيس "الحزب الديموقراطي الأمازيغي" (المحظور سنة 2007) هو النهوض بالعلمانية والعمل على احترام الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان خاصة ما يعرف بالشعوب الأصيلة. هنا تكمن المفارقة العجيبة، يعتبرون الإسلام مجرد إرث ثقافي وسوسيولوجي كالأواني القديمة والملابس العتيقة في حين يعتبرون المواثيق الدولية أسمى من التشريع الوطني والإسلامي.(3)

استغرق لحسن بروكسي صفحات كثيرة في كتابه "الأمازيغيون أمام مصيرهم"(4) ليقول إن الحركة الأمازيغية علمانية تناهض «إدخال الدين في المجال السياسي» ويجب إبقاؤه في «المجال الروحي الفردي» ليخلص أن الحركة الأمازيغية أمامها عقبة الحركة الإسلامية لتوطيد المشروع العلماني على اعتبار أن القبيلة الأمازيغية هي بطبيعتها علمانية لا تعرف من أين يبدأ الإيمان وأين ينتهي، هناك فصل صارم بين السياسي والديني في تدبير شؤون القبيلة بحيث يتولى «أمغار» تنفيذ القرارات السياسية فيما يهتم الفقيه بالشأن الديني. كل ذلك وفق منظومة قانون العرف الذي يحكم القبيلة. «ذلك أننا [يقول عبد اللطيف أكنوش] أمازيغ أي رجال أحرار لا نخضع لأحد، خاصة إذا ما اعتقد أنه بإمكانه حكمنا عبر المقدس وبالمقدس... فلا سبيل اليوم للمغرب لولوج العولمة والحداثة غير الرجوع والعودة إلى اللائكية الأزلية التي اعتادها مواطنوه منذ آلاف السنين»(5).
يتم تبرير "الاختيار العلماني" للمطلب الأمازيغي بكونه نظاما شاملا يُجبر الدولة على ألا تتخذ أي دين دينا رسميا لها في الدستور، كما يجب تحييد دور المدرسة في تعليم الدين [الإسلامي] لأن المدرسة ينبغي أن تحترم حرية الضمير والمعتقد وأن تدرس جميع الأديان بشكل موضوعي تفاديا لما يسميه مصطفى عنترة بالاضطهاد الديني. من فوَّض هذه الأوليغارشية الفرنكوشيوعية أن تتحدث باسم الأمازيغ؟ لأي مجتمع يُنظر هؤلاء؟ أليس كل المغاربة مسلمون؟ أيجب علينا أن نُدرِّس جميع أديان الدنيا لنحترم حرية الضمير والمعتقد؟ ما مفهوم السياسة في الإسلام ؟ وما موقعها؟
السياسة والدين -والدين عند الله الإسلام- في منظومة التيارات العلمانية كالماء والزيت لا يجتمعان لأن الساسة رجس وكذب ومكر وخداع فيما الدين صفاء، تقوى، ورع وما شئت من الألفاظ الطنانة، أن نجمع بينهما إذن لا يجوز عقلا وشرعا لأننا نغمس الدين في دنس السياسة ولأننا نستغل الدين لأغراض سياسية. الجمع بين الصلاة والسياسة هو تسييس للدين، انتهازية، وصولية، جريمة لا تغتفر.
اعتقاد هذه التيارات بأن «الدين» مبجل ونقي يجب أن يبقى بعيدا عن الصراع السياسي لا يمكن فهمه على أنه احترام وتقدير لهذا الدين بقدر ما هو إحكام الحصار عليه وزج به في ركن المتعلقات الشخصية. يجري التلاعب بالألفاظ لإخفاء الحقائق كاستخدام عبارة "رجال الدين" بدل "علماء" و"الحكم الديني" بدل "الحكم الإسلامي" والهدف هو إسقاط الصورة القبيحة التي عليها رجال الدين في الكنيسة على صورة علماء الإسلام ووضع الكل في سلة واحدة. في المجتمع الإسلامي ليست هناك طبقة يمكن تسميتها برجال الدين .
الإسلام في نظر العلمانيين مجرد عقيدة لا يمكن الاعتماد عليها في تدبير حياتنا سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا... هذا غبش ونظرة تقزيمية للإسلام. إن السياسة في الإسلام «معترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها... مع علمهم أنها قطعا حق مطابق للواقع والذي أوجب لهم ذلك: نوع من التقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر»(6) كما أنها -أي السياسة- «باب واسع تضل فيه الأفهام، وتزل ففيه الأقدام، وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود ويجرئ أهل الفساد، ويعين أهل العناد... لأن في إنكار السياسة الشرعية رد للنصوص الشرعية وتغليط للخلفاء الراشدين»(7)
كذلك فعل الخلفاء الراشدون والصالحون بعدهم، هذا هو الأصل، السياسة جزأ لا يتجزأ من الإسلام، لكن نخبنا المغربة العلمانية تصر على أن السياسة كيفما كانت وكان مصدرها لا يمكن إلا أن تكون مكرا وخداعا ودنسا وأن الدين -أي دين على وجه الأرض- يفسد الأمور إن هو تخطى دائرته الضيقة المرسومة له. تعبد كما شئتَ، صم اغسل لنا الأموات، وصل لنا الجنائز والاستسقاء لكن لا دخل لك في السياسة والدولة، مصدر هذا الغبش هو فهم الإسلام خارج إطار منظومته الأخلاقية والحضارية التي تؤطر المجتمع الإسلامي بحيث يجري فهم السياسة ضمن المنظومة الغربية الملغومة أصلا ضد الدين كيفما كان.
إن الإسلام هو البوصلة القادرة على توجيه الضمير التوجيه السليم في السياسة والحكم، «فإذا كانت السياسة قذارة، فهل المطلوب إبعاد الدين عنها أم المطلوب نزولها تحت حكمه حتى تخلص من قذارتها، أو في الأقل يخفف من ذلك، ولهذا لا مفر أن تحكم السياسة بضوابط الدين، فالارتكاز على الإسلام في العمل السياسي أشد ضرورة... لما يحمله مجال السياسة من مزالق أخلاقية»(8) هذا لا يعني أن اعتماد المرجعية الإسلامية في العمل السياسي هو إضفاء لنوع من القداسة على أعمال أو أفكار السياسيين، فالاجتهاد بخطئه وصوابه وارد. بالتالي إذا سلمنا بإمكانية الخطأ في العمل السياسي الإسلامي كونه بشري في نهاية المطاف، فكيف يمكن تصور العمل السياسي بعيدا عن تعاليم الإسلام؟
إن الإسلام ليس لوحة فنية جميلة تعلق على الجدران لتأثيث المشهد الثقافي أو للعبادة والزهد فقط، وإلا فما الحاجة لإسلام لا يوجه الإنسان في كل مناحي حياته سياسيا، أخلاقيا، اقتصاديا... كلما كان الإسلام مرجعا للحكم زالت الحجة العلمانية الواهية: استغلال الدين أو احتكاره، لأنه في تلك الحالة يكون متاحا للجميع وواجبا يعلو فوق الجميع، أساس الأمر «أن الإسلام هو الأصل الثابت الذي لا يتزعزع، والمصدر الأول للمعرفة السياسية، ثم يأتي في المرتبة الثانية الاجتهاد وفقه الواقع على ضوء تقدير المصالح والمفاسد في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية»(9) فالأصل في السياسة هو تدبير حياة الفرد والجماعة وفق أسس ومقاصد الشريعة الإسلامية وليس وفق مصالح انتهازية ضيقة تجعل من كل وسيلة شرعا لبلوغ الغاية. مثل هذا السلوك دفع الناس إلى اعتبار السياسة رديفا للمكر والخداع والوصولية حتى أصبحت السياسة يُنظر إليها من مبدأ «أعوذ بالله من السياسة ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس» يجب إذن -من المنظور العلماني- إبعاد الدين عن السياسة رغم أن التجربة النبوية والراشدية أثبتت العكس، إلا أن ذلك في نظر العلمانيين كان أمرا استثنائيا وخارقا وتجربة ملائكية لا يمكن أن تتكرر، لكن هل يجوز أن نتعامى هكذا عن الجانب البشري لرسول الله عليه الصلاة والسلام في كل ما فعله؟ ﴿قُلِ اِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف:105]. ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً﴾ [الإسراء:93] وبين عليه الصلاة والسلام هذا الأمر بقوله: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»[صحيح مسلم: كتاب الفضائل].
لذلك نجده تصرف كنبي مدعوم بالوحي كما تصرف كإنسان وقائد باعتباره رئيسا للدولة وقائدا للجيش. لا يمكن للمسلم أن يعيش حياته بعيدا عن هدى الله، في إدارته، منزله، معمله، سياسته... ﴿وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلاَ مُومِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا اَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنَ اَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا﴾ [الإسراء:36].
جاءت العلمانية في بنية ثقافية واجتماعية تميزت بتمكن الكنيسة واضطهادها للعلم والعلماء حيث أنشأت محاكم للتفتيش وباعت صكوكا للغفران وأحرقت العلماء (برونو، كاليليو...)، حالة الانحباس هذه مهدت لثورة الثوار ضد الكنيسة وكهنوتها، «ثأر المتجددون المتنورون... وعادوا الدين النصراني أولا والدين المطلق ثانيا... وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان، فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر، ومن آمن بالأول كفر بالثاني»(10) كان لزاما إذاً قيام دولة مدنية إنسانية أرضية بعيدا عن كهنوت الكنيسة وشرورها، هكذا تشكلت عقيدة جديدة لادينية أساسها المادية والاستهلاكية لا مكان فيها «للمقدس» الذي أزعج الأوروبيين كثيرا في حياتهم بسبب ممارسات الكنيسة، فبدأ الدين بالإنكماش والتراجع فلقب رجالات الكنيسة ب «رجال الدين» وهو وصف لمآلهم بعدما انتزعت منهم السلطة المطلقة التي كانوا يتمتعون بها فصاروا -ومعهم الدين المسيحي- في دائرة ضيقة لا تتجاوز أسوار الكنيسة بعيدا عن شؤون الدولة.(11)
أما في الإسلام فلا وجود لطبقة في المجتمع يمكن تسميتها ب«رجال الدين» لأن الإسلام ليس دين عبادة وحسب، بل هو «نظام كامل شمل الدين والدنيا [كما قال المستشرق شاخت] ويتداخل فيه الديني والدنيوي إلى حد التماهي»(12)
من السذاجة أن نجعل مما وقع في أوروبا منذ زمن طويل قاعدة عامة تسري على كل الأديان رغم أن «الجماهير كانت محقة في خروجها على الكنيسة في أوروبا، ومطالبتها بإقصاء رجال الدين عن المسرح السياسي بعد أن ذاقت من هؤلاء الأمرين. فالظلم والقتل والشنق والحرق والسحل كانت من الوسائل التي لجأت إليها الكنيسة لتدعيم سلطانها»(13) لكن الحويصلة العلمانية أضيق وأعمى من أن تستوعب تاريخ الإسلام الذي لم «يشهد أي فصل بين شيء يسمى دين وشيء يسمى دولة... ولا بين طبقة تسمى رجال دين وأخرى تسمى رجال الدولة»(14) ، لأن العلمانية مرتبطة بالأزمة الروحية في أوروبا حيث «ارتكبت الكنيسة الخطأ المتمثل بأنها تركت نفسها تتحد بشكل حميم مع قوى الملكيات والارستقراطيات، وجازفت بذلك بأن تدفن تحت أنقاضها عندما يحين وقت انهيارها» ما أوجد حالة من العداء الشديد للكنيسة وأصبح الدين بسبب ذلك لا يعامل إلا «ببقائه بشكل صارم منفصلا عن الحكومة السياسية»(15) لكن إسقاط هذه التجربة على التاريخ الإسلامي أثبت بجلاء أن الفصل بين عقيدة الإسلام وشريعته وواقع المسلمين أدى إلى انحراف خطير في القيم والمبادئ والمفاهيم الإسلامية (16). فالعلمانية في أوروبا جاءت نتيجة تطور تاريخي مهد للتحول وتبني خيار اللادينية في تدبير شؤون الدولة التي كانت ملاذا خلص الناس من أوهام وترهات الكنيسة. كانت الثورة على النظام خيارا منطقيا وواقعيا وأصبح الكل ينادي بشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.
لكن المنادين بالعلمانية في البلاد الإسلامية ينطبق عليهم وصف ابن خلدون بأن «المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده» لقد «رضعت هذه النخبة المغربة ألبان اللائكية، وتشبعت بخصائصها الفلسفية ومرجعياتها الوثنية وأبعادها الدنيوية الصَّادَّة عن ذكر الله وعن الصلاة، مما أهلها لتخلف المستعمر المتكبر... واليوم ها هي ذي نبتة السوء، اللائكية اللادينية تصول وتجول في بلاد الإسلام محاولة الإجهاز على ما بقي من عرى الإسلام، رافعة شعارها العتيد لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، والدينا بمعزل عن الآخرة»(17)

أصبحت العلمانية لا تعني تحييد دور الدولة إزاء الدين، ولا تعني حرية التدين بل هي عقيدة ديكتاتورية تعني إطلاقا لا دين لأنه يستحيل -حسب الزعم العلماني- ممارسة السياسة في حقل مسيج بالأحكام الدينية والمرجعية المطلقة في حين أن السياسة هي «فن الممكن، والممكن يهبط ويعلو سقفه باختلاف الشروط والوقائع والزمان والمكان»(18)
كيف يمكننا بناء مستقبل وهمي لنا بناء على ماضي الشعوب الأخرى؟! للأسف هذا ما يريده العلماني الحداثي، «لا يزال في قِماط طفولته المقلدة يجتر نسق القرن الثامن عشر الأوروبي... من لا يتنور بفولتير وروسو فهو في ظلام... من لا يأخذ الدرس المباشر من الثورة الفرنسية... فهو معتوه ميؤوس منه، وكأن الظروف هي الظروف وتاريخ الكنيسة مع الفلاسفة هو التاريخ، واستعداد أوروبا إذ ذاك لنبذ دينها الكنسي كاستعداد المسلمين اليوم لنبذ قرآنهم... حداثيون لكن متخلفون بقرنين في نمط التفكير»(19)
لا يتردد هؤلاء في اتهام كل من يتمسك بالإسلام بأنه ماضوي ورجعي وهم اللقطاء يشدهم التكلس الفكري والتحجر العقلي، يسحبون ذنوب الكنيسة على كل ما يسمى دينا، لو كان التقليد الأعمى واستيراد القيم الجاهزة هو ديدن الشعوب لكان لنا من الأولى استيراد البوذية والكنفوشوسية من الصين واليابان المستقبلية بدل القيم الشمطاء للقارة العجوز. ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُومِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمُ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[المؤمنون:49].
إن العلمانية ليست أكثر من نتاج للمجتمع الغربي في حقبة معينة، بعبارة أدق، هي نتيجة لظروف خاصة بالمجتمع الغربي، إلا أن التيارات العلمانية في البلدان الإسلامية تبني تصورها على خطأ المساواة بين جميع الأديان، «بناء على هذا الخطأ الشنيع، يقيسون الإسلام على النصرانية، ويماثلون بين تجربة الشعوب الإسلامية في ظل الإسلام، وبين تجربة الشعوب الغربية في ظل الكنيسة النصرانية، وهكذا يصبح المسجد الإسلامي هو الكنيسة النصرانية، وعلماء الإسلام هم رجال الدين في اللاهوت النصراني، والقرآن هو الإنجيل، والتجربة هي التجربة... حتى تنتهي هذه المماثلة الفاسدة إلى أن ما صلح في التجربة الغربية هو الصالح لا محالة للشعوب الإسلامية»(20)
إن مهمة العلماني في البلاد الإسلامية مهمة سيزيفية ومثيرة للشفقة، أرسلته آلهة الغرب لإقناع المسلم بما يستحيل الاقتناع به وهي إمكانية كونه مسلما دون أن يكون مضطرا لممارسة شعائره وعباداته، ﴿أَفَتُومِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾[البقرة:53].
إنه من السخيف أن نلهث وراء التبعية حبا في الانقياد ونؤمن أن الطريق الوحيد والأوحد للتقدم والنهوض هو ما فعله الغرب الذي طرح "دينه" وراء ظهره ليبقى الإسلام حبيس الزوايا والمساجد التي تغلق كما تغلق السجون لأنه (أي الإسلام) ليس أكثر من حلال وحرام، حيض ونفاس ونواقض وضوء. ما جعل الله الإسلام خاتمة رسالاته وناسخها إلا ليوجه الإنسان في كل مناحي الحياة. فالإسلام ليس مجرد عقيدة بل هو أيضا «شريعة دينية اجتماعية، والتمييز بين الدين والدنيا أمر غريب على الإسلام... فأوجد [محمد عليه الصلاة والسلام] دينا ودولة لا ينفصمان خلافا للتاريخ المسيحي الذي بشر فيه عيسى [عليه السلام] بعقيدة تعطي ما لقيصر لقيصر، لأنه ولد في كنف إمبراطورية رومانية وطيدة الأركان»(21).

الهوامش:

1- المسألة الأمازيغية بالمغرب، مصطفى عنترة، ص85
2- النص الكامل للحوار لمصطفى عنترة على موقع هسبريس الإلكتروني (حاوره محمد عروبي)
3- الحوار المتمدن، عدد 1484 بتاريخ 9 مارس 2006
4- مطابع أبي رقراق، الطبعة الأولى الرباط 2006 (بالفرنسية)
5- أورده مصطفى عنترة في: المسألة الأمازيغية بالمغرب، 102
6- الحقيقة الكاشفة، عبد السلام الجيلاري، ص 11-12-13
7- المصدر نفسه
8- بين النهوض والسقوط، منير شفيق، ص98
9- مجلة نوافذ، عدد 5، أكتوبر 1999،ص33
10- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبوالحسن الندوي، ص195
11- الإسلام بين العلماء والحكام، ص86
12- دستور الوحدة العقائدية لدعاة الإسلام، ص86
13- كيف ندعو إلى الإسلام، فتحي يكن، ص87-88-89
14- المصدر نفسه
15- تاريخ الفكر السياسي من الدولة القومية إلى الدولة الأممية، جون جاك شوفالييه، ص183
16- حول القيادة والسلطة في التاريخ الإسلامي، ص70
17- الحكم الإسلامي بين النقض والإبرام، محمد دحان، صص123-124
18- مجلة منار الهدى، عدد مزدوج 5-6، السنة 4، صيف2005
19- حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، عبد لسلام ياسين، ص195-196
20- المودرنيزم وصناعة الشعر، عبد العالي مجدوب، ص45-46
21- كلود كوهين، أورده عبد السلام الجيلاري في: الحقيقة الكاشفة، ص22


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.