رجال هم، والرجال قليل.. بعض الناس غثاء كغثاء السيل، ولكن بعضهم ذهب من أرفع وأثقل عيار.. وأولئك هم الرجال.. والرجال في دنيانا قليل.. رجال باعوا أعمارهم لله ونذروا حياتهم لخدمة الأوطان.. حلموا بغد جميل لأهلهم ووطنهم، وضحوا من أجله بشبابهم وأهاليهم وراحة بالهم، وتصدوا لكبار الهموم، لا يرجون من وراء ذلك جزاء ولا شكورا. هم ملح الأرض وزينة الشباب.. هم أكاليل المجد التي لا ترى فوق رؤوسنا.. هم ضمائرنا حين تنام منا الضمائر أو تخمل أو تُغتال. رجال كان يسعهم أن يعيشوا لأنفسهم فيكونوا وجهاء المجالس وأهل المناصب والثراء. لكنهم آمنوا أن سعادتهم في سعادة عامة الناس وضعفائهم وأولو الحاجات منهم، وأن الوجاهة الحقيقية هي وجاهة التضحية والفداء.. رجال آمنوا أن الثروة الحقيقية هي ثروة المحبة في قلوب الناس.. ثروة الدعاء لهم بظهر الغيب، حين يرق القلب ويشف، فلا يكون بينه وبين الرحمان فاصلا أو حجابا. * محمد القلوي.. رجل من هذا الصنف الذهبي النادر.. رجل والرجال قليل.. خمسة وخمسون عاما هي عمره الآن، قضى نصفها في السجون والمعتقلات والاختفاء. سبعة وعشرون عاما هي مدة زواجه من سيدة صابرة محتسبة.. لم يقض منها مع زوجه سوى سبع سنين، لم تخلص له ولا لزوجته.. قضى الجزء الأكبر منها في دهاليز النضال السري، حالما بالتغيير نحو الأفضل، والغد الأجمل لكل التونسيين، فكوفئ بالسجن والتعذيب وامتهان الكرامة البشرية، في سجون لا تعرف للكرامة معنى، ولا تقدر إنسانية الإنسان. حين يبلغ الرجل الخامسة والخمسين يلقي نظرة طويلة ملتاعة خلفه.. وأخرى أمامه.. يستعيد ما مضى من أيام حياته، ويستشرف الباقي منها في خوف ووجل.. يصفق بيدين فارغتين فلا يجد إلا الهباء وقد تناثر حوله عن يمين وشمال.. ولولا ما ادخر لنفسه في الآخرة عند الله من صالح العمل لعصفت به الأوجاع وطوقته الأحزان وأظلمت الدنيا في وجهه. خمسة وخمسون عاما هي لحظة عابرة بعد أن تمضي.. لكنها دهر طويل حين يعيشها المرء مطاردا فسجينا فمعذبا محروما من زوجه وأطفاله، ثم يعيشها سجين بيت ترقبه عيون العسس، عاطلا عن العمل.. يرى أطفاله يعرون أمامه ويجوعون وهو عاجز عن أطعامهم وكسوتهم.. فيخنقه العجز والقهر. أطفال عرفوا السجون صغارا، حين كان نظراؤهم يرفلون في حلل النعيم.. أطفال كانوا يقضون وأمهم الصابرة المحتسبة أيام العيد، حزانى والناس فرحون، أمام السجون والمعتقلات يسألون عن أب غيبته عنهم جدران عالية، تعلوها أسلاك شائكة، تجرح الأرواح قبل أن تجرح الأجسام، وأبواب قاسية لها حين تفتح صرير تقشعر له الأبدان. ما أقسى الوطن حين يعامل خير الرجال معاملة القتلة واللصوص وقطاع الطرق.. وما أجحد الوطن حين يغرس خنجرا مسموما في القلب الذي عشقه فيدميه، أو حين يرمي العين التي دمعت من أجله حبا وتوقا للأجمل والأفضل بإبرة فيفقأها فتبكي عليه دما بعد أن بكت لأجله دموعا. * منصف بن سالم.. رجل آخر والرجال قليل. عالم عامل صابر ثابت راسخ رسوخ راسيات الجبال، وللأجيال خير قدوة وخير مثال. عرفت البروفيسور منصف حين كنت طفلا.. كان الشاب الدكتور مِلأ السمع والبصر، مُفتّحة في وجهه الدنيا، يعبّ منها، لو شاء، كما يشاء.. لكنه آثر أن يُؤثر بلده، عن نفسه وأسرته، بعلمه وعمره كله من حيوية الشباب لحكمة الكهول.. فدفع من حريته وأمنه وأمن عائلته الكثير، ومازال حبل الظلم يطوقه، وسوطه اللاذع يلسعه بين الحين والحين. في منتصف السبعينيات كانت أكثر أرياف تونس وحتى الكثير من مدنها مرتعا وخيما للجهل وشيء من الشرك وعتو الناس وضلالاتهم حين تسيطر عليهم اللحظة الغبية العابرة فينسون ويطغون. وكان البروفيسور منصف شابا حيويا متدفقا، علما وخلقا، يجاهد باللين الجهل حين يلبس قلوب النساء ورؤوس الرجال. كانت زيارة الأولياء والتبرك بهم إلى حد العبادة والتقديس هي الداء المستشري في جسد الريف، حتى تخشى العجوز، ورجلها على حافة القبر، أن تقسم بالولي الصالح فلانا حنثا، وترضى أن تحلف على ذلك حنثا بالله العظيم بأغلظ الأيمان، لأن غضب الولي وخطره عنها لا يرد إلا بالصدق في اليمن.. لم يفتّ ذلك من عضد الشاب المؤمن الصادق الإيمان، فناضل وجاهد بالكلمة وحسن الخلق حتى رفع الغشاوة عن عيون وعقول كثيرة. عندما كان الأثرياء والوجهاء يجعلون من أعراسهم ولائم للتفاخر والبذخ، ويحرصون على أن يحييها المغنون الخليعون والراقصات الكاسيات العاريات، كان زواج البروفيسور الشاب صدمة وعي للكثيرين.. لا غناء خليع ولا رقص ولا خمر ولا ليالي حمراء ملاح.. ففي زمن كان المغنون فيه يرددون في الأعراس: "ما نحبوش يصلي.. نحبو يسكر ويغني"، أحيا عرس البروفيسور الشاب "أديبان" يتنافسان شعرا، صلاة على النبي، ومدحا في صحبه وآله الميامين، وترغيبا في الحج وصالح العمل. وكنت وأنا الطفل المعجب حد الوله بالبروفيسور الشاب، أزداد تعجبا وإعجابا وحبا وحيرة: لم خالف الرجل في زواجه جميع ما ألفه الناس واعتادوه.. ولم أدرك ذلك إلا بعد مرور السنين. سيارة البروفيسور الشاب وكانت من نوع 404 عائلية بيضاء، كان يأخذ فيها الناس الذين يلقاهم في طريقه إلى صلاة الجمعة، فتمتلئ بالعشرة من الرجال وأكثر، حتى تكاد تلامس الأرض ثقلا، فكان يسير بها في سرعة تقل عن 20 كلم في الساعة في طريق ريفي غير معبد.. وكان يستحي أن يمر بذاهب إلى الصلاة ولا يأخذه معه في سيارته الصغيرة.. لا يتأفف من راكب ولا يقول للناس إلا خيرا. وفي المدينة والعاصمة كان البروفيسور الشاب منجم علم وخلق وأدب.. يدرس طلابه علم الرياضيات، فيخرّج دفعات المهندسين والعلماء دفعة بعد دفعة.. ويمثل تونس في المنتديات العلمية الدولية.. لكن ذلك لم يمنعه من النضال من أجل غد أجمل لتونس وأفضل. سألته يوما في حوار صحفي، حين كبرت وبدأت أمارس الصحافة طالبا: لم تحشر نفسك سيدي البروفيسور وأنت العالم الناجح في شؤون السياسة وتقلباتها؟، فكان جواب هذا الرجل، والرجال قليل: وجدت علمي يضيع كما يضيع الماء حين يسكب في صحراء، فأردت تغيير السياسة حتى تكون خادمة للعلم والعلماء، وحتى نرتقي ببلادنا إلى مصاف الدول الأكثر تقدما.. فماذا كانت النتيجة.. سجن وتعذيب وامتهان للكرامة وعدوان على الزوجة والأطفال، وإضاعة عالم كبير وعلم نافع غزير، وبلادنا في أمس الحاجة إليه وإلى أمثاله. الكتابة عن البروفيسور منصف .. هذا العالم العلم الأشم، الذي عرفته شابا، وبلغ اليوم السابعة والخمسين من عمره.. عملية ممتعة محزنة في آن. الكتابة عن هذا الرجل المناضل الصامد صمود الجبال في وجه الريح، تذكرني بأيام طفولتي وشبابي الأول فتبهجني.. تذكرني برجل أحببته وظل في قلبي وعقلي مثلا أعلى، أفخر بأن بلدتي وبلادي قد أنجبا عملاقا لا تزعزعه الأهوال.. لكن الكتابة عن البروفيسور الرائع الشهم الأشم تذكرني أيضا، والرجل وقد قارب الستين من العمر، وافترسته الأمراض والحصار البوليسي.. تذكرني بعجزي عن خدمته فأحزن وتضيق الدنيا في وجهي ولا أجد له إلا الدعاء باليسر بعد العسر.. دعاء بيسر يعقب عسرا وقد استفحل واستطال. آه ما أقسى الوطن حين يعامل خير الرجال معاملة القتلة واللصوص وقطاع الطرق.. وما أجحد الوطن حين يغرس خنجرا مسموما في القلب من عشقه، أو حين يرمي العين التي دمعت من أجله بإبرة فيفقأها فتبكي عليه دما بعد أن بكت لأجله دموعا. أمثال القلوي وابن سالم كثيرون كثيرون .. في بلاد يعذب فيها صغار النفوس أصحاب النفوس الكبيرة ومنهم يتشفون.. سجين سابق أمضى عشرة أعوام كالحة في سجن يتفرعن فيه الحقراء، ويعربد فيه ذوي النفوس المريضة.. قال لي إنه حين خرج من السجن بقي لأشهر عاجزا عن اجتياز الطريق بمفرده.. قال لي إن أخته الصغيرة كانت تأخذ بيده لتساعده على اجتياز الطريق، لأن السجن دمره وكاد يحطم ملكاته وقدرته على التصرف السليم.. اقشعر بدني للذي سمعت.. وأدركت أن المرء لا يملك أمام هؤلاء الرجال من شيء إلا أن يلعن جلاديهم.. وأن يرفع لهم التحية.. وأن يغرسهم في قلوب أطفاله شُهبا ونجوما يُقتدى بهم عندما تدلهم الظلمات. هؤلاء الرجال لا يمكن أن يقتلع أثرهم من بلادنا القمع والطغيان.. لقد غرسوا غرسا لا يضمحل مع الأيام.. وهم رجال لا يمكن أن يهمشهم من يظنون وهما أن الصحوة الجديدة صحوة مقطوعة الجذور عن بركة وفضل وخير مثل هؤلاء الرجال.. فهؤلاء رجال .. والرجال قليل. فلهم جميعا ألف ألف تحية.