كثير من الألم يزول مع زوال الدنيا وكثير من الهم يمضي مع مضي الأحزان بمضي الليل والنهار... والراشدون الصابرون وحدهم الذين لا يشربون من بحر الآثام... الراشدون الصادقون عنوان الآخرة لا يُرَون إلا معاندين لأهل الباطل مهما هاجت وماجت بحار الآثام... لأنهم وحدهم يصلحون بوصلة للحق وأهله... لا تسمع لهم أنات ولا زفرات حين يظهر عنفوان الباطل ويخمد الحق بغشاوة عابرة لأنهم يدركون ميثاق الوصل مع الله... لأنهم وحدهم أدركوا وعرفوا أنّ الحبال كلها مقطوعة إلا حبل الله... لأنهم وحدهم الذين يشار إليهم بالبنان حين تفزعنا الأحداث ويتهاطل علينا بأسمى الامتنان بغية الافتتان... هم وحدهم من سيذكرهم التاريخ حين يصدق كتاب التاريخ وحين يكذبون, لا لشيء إلا لأنهم مداد الأقلام... هم وحدهم الذين تزخر بهم وبآثارهم صفوات الأسفار قبل الإسفار... هم وحدهم برشدهم وصدقهم يعلمون العدو عداوة الآكام, ويعلمون الصديق إنبات الزرع بالصبر والأحزان... هم وحدهم الذين إذا تكلموا صدقوا وإذا ظُلِموا صمتوا وإذا علموا عملوا بمقتضى الجنان... هم وحدهم إذا رؤوا يغشاهم الوقار لأنهم هبة الله للضعيف والحيران...يحدثونك بكلام تصدقه القلوب قبل الآذان فلا يكذبونك أبدا... ألم تر أن عدوهم لا يصدق غيرهم مهما بلغوا في الصدق درجات لأنه أدرك أن صدقهم يسري في الوجدان قبل بلوغ الآذان... وأنهم إذا تكلموا سمعوا واتبعهم النساء والرجال والشيوخ والغلمان... هم هبة الله حقا في ظلمات الجهل والطغيان... نور من الله تجسد في الطائعين يهدي بهم الله سبل السلام فلا تغرق لهم سفينة أبدا... النصر والفتح والشهادة والسجن والتشريد والتجويع وغيرها من عناوين الآخرة جعلها الله مسالك لهم ليمتحنهم... فكلما عجت بأصحابها سبيل تراهم يخرجون منها صابرين محتسبين يرقبون عنوانا من عناوين النصر... كلمة سمعتها من شيخي وأنا يافع صغير لم أنسها وقد مر عليها عشرات السنين يعلمني فيها عنوانا من عناوين النصر وهي بوصلة في العلم والعمل الصالح "هل سيرضيني أن تنتصر الحركة على عدوها اليوم وأدخل النار يوم القيامة" كلمة سهلة كسهولة الدين ولكنها قمة من قمم المعرفة لا يخطئها عقل... ماذا لو غرف الناكصون اليوم عن سبيل الوسطية غرفة من غرفات الراشدين؟!...
أنقذتني بعدها كلمة سهلة أيضا قالها حين المحاكمة الجائرة صاحب السفينة وقتها أقضت مراقد المستبدين الحاقدين حين غفل عن نفسه وقدم حق حركته "إنها كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها"... من أراد بعدها أن يغرف غرفة من غرفات الرجال فليمدد بسبب بين ذينك المقالين... أولئك الذين سهلت عليهم الدنيا فعاملوها معاملة الصبي فروضوها بحلاوة الإيمان وبما تذوقوه من نفح الصبر واليقين... هم أصحاب حين تتزين لهم الدنيا وهم خلان حين تجتمع المصائب يؤثرون بعضهم بعضا حتى تميل كفة الإحسان بينهم إلى أحبهم لأخيه لأنه أحبهم إلى الله... هم سبق خير وبركة إذا جلست إلى أحدهم فانهل منه قيم الرجال وتحسر على ما فاتك من السبق... أئمة في سبيل الحق لا يزايد عليهم أحد في فكرهم ولا في بلائهم...حين تكثر رياح الدنيا يعتصم الناس بهم... عشرون سنة مرة مرت تغير فيها آلاف الإخوان مرات ومرات وتغيرت أفكارهم مرات ومرات وتغيرت أحلامهم مرات ومرات, مرات مع الحق ومرات مع الباطل لأنهم بشر يخطئون ويصيبون ولكن أئمتنا في المطبات العظيمة المائجة الهائجة يثبتون ويستميتون ويعاندون حتى يثبت كل الركب... فتذهب الغفلة عن الغافلين فمنهم من يحمد للصالحين فعلهم, ومنهم من يجحد مع الجاحدين... انظروا أيها الرجال حولكم من ثبتنا حين أخذتنا موجة الانتصار والعزة عند جيراننا وأخذتنا بهجة إراقة الدماء من أجل طلب حق جزئي فات معه حق عظيم؟!... انظروا أيها الرجال حولكم من علمكم أنّ الرشد في أفكار الشيخ اقتاد الرجال في كل مكان يسمع به عربهم وعجمهم ولقد بلغ ببعضهم في بداية الفهم أن كفره بفكره وضلله وفسقه؟!... من علمكم أنّ الكلمة الطيبة تحتاج من الإنسان أن يضحي من أجلها بعقدين من عمره على الأقل يغرسها في قلوب الناس ويذكيها بالرشد متى احتاجت إلى الثبات؟!...
رأينا أناسا كثيرا قد شدوا بعد النكبة إلى أنفسهم فهرعوا إلى الخلاص الفردي يحسبونه منقذا في كل أمر ففتحت عليهم الدنيا فأنستهم إخوان الأمس فلم نسمع بهم إلا حين توافدوا على مدح السلطان يمجدونه ظلما وبهتانا وفيهم من كان ينادي بما نادى به إخواننا الجيران! أي عبث هذا؟!...هذه المحنة قد هزت الكثير ولكن الثبات الأكبر كان من حظ الشيخين لأنّ كل واحد منهما بقي ثابتا لا يتزلزل وقد ظن الكثير أنّ من دمرت دنياه لعقدين كاملين عليه أن يسكت حين يطالب بشهادة الحق فما لبث أن تكلم بقول سديد لا يحسنه الكثير منا حين تفتح عليه الدنيا وينسى أنه داعية خير... أي ثبات وهبك الله أيها الشيخ الصادق؟...أي علم آتاك الله حين أتممت كتابه حفظا وتدبرا ختمات وختمات؟... أي إحسان وهبه الله قلبك؟... أي ليل كنت فيه تركع وتسجد لم تبك فيه على نفسك ولكنك بكيت فيه على حال الشجرة خوفا من أن يضيع غرسها من بايعك؟... أي امرأة اصطفاها الله لك لتصبر معك على مرارة الفراق وعلى كل ضراء مستك ومستها من القريب والبعيد؟... أحسب أنّ الله سيعوضك وسيعوض شجرتك خيرا بعد خير... وإن لم يعترف مخالفوك بأنك أولى تونسي على تونس وبحق علما وعملا فإنّ الله يعلم كل الحق وحده ولن يضيع أجرك ولن ينقصك حقك... لم أعرفك من قبل سيدي ولكني عرفتك من خلال المعاناة وكأني بك تحدثني أن اصبر بني فإن وعد الله حق... عرفتك إذن من خلال وعد الله وعرفتك إذن من خلال حبل الله وعرفتك إذن من خلال صدق الرجال وعرفتك إذن من خلال احتساب الرجال كما عرفتك سيدي من خلال رشد الرجال... جوزيت عني خير الجزاء لأني ما اغترفت غرفا بحق كما اغترفته من منافحتك الباطل سيدي فلم تترك للكلام مجالا ولا للمنظرين عنوانا...
وجزى الله عني خير الجزاء شيخا علمني: كيف يثبت الرجال؟... وكيف يثبت الرجال الرجال؟... وكيف يفكر الرجال؟...وكيف يكون الرجال حين تموج بحار الآثام؟... وكيف يكون الرجال حين ظلم الإخوان؟... وكيف يكون الرجال مع كل الناس؟... أحسب شيخيّ الجليلين أني ما أعطيتكما حقكما ولا بعض حقكما بهذه العبارات... كما أحسب أنّ أبناء تونس اليوم ولأنهم في حكم المكره لا يمنكهم أن يصرحوا بفضلكما على بلادهم ولكن حسبكما الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا... شيخي الجليلين بخس حق الحركة لسنوات وسنوات من القريب والبعيد وبخس حق مناضليها وعلمائها ودعاتها ومفكريها لسنوات وسنوات وهو حال الضعيف غالبا في قانون الغاب... شيخيّ الجليلين ما ينتظر منكما اليوم هو أكثر بكثير مما سبق في حق الحركة وفي حق البلاد جميعا بعد أن علمتما الناس ثمن الحرية... ينتظر منكما مزيد من لم الشمل وسد الثغرات بعد أن حاول الظالمون تمزيقنا... ينتظر منكما تذكير الناس بواجب الدنيا وكرامة الآخرة... ينتظر منكما شيخيّ الجليلين توريث الأجيال معنى الإخلاص لله ثمّ للأوطان ومعنى التضحية والنضال... ينتظر منكما تجذير الوسطية والاعتدال حتى يهرع إليكم الغالون والمفرطون... ينتظر منكما كذلك إخراج إنتاج الحركة من الحيز القطري إلى الفضاء العالمي لتكون منارة عالمية تشد إليها رحال الأفكار...
شيخيّ الجليلين لطفا فإنه قد خانتني عبارات تليق بالمقام فأنّى لمثلي أن يعتلي مقامات الصادقين الراشدين، فالسلام عليكما ورحمة الله وبركاته.