قليلة هي النصوص المكتوبة بالعربية عن السجون والمعتقلات والتعذيب. يمكن ان يكون السبب اخلاقيا حين يكون السجين تعرض لاهانات كبيرة لا يريد ان يسمع بها الغير ..فمفهوم الرجولة والذكورية يمنع من ذكر تفاصيل دقيقة تحصل في محلات الايقاف في بلدان يكون فيها التكوين الاساسي للجلادين والمحققين مبنيا على ثقافة جنسية سوقية متخلفة... ولاننا ننتمي لثقافة وتاريخ يجعلان من الجسد عورة وعارا وملفا لا يمكن البوح بتفاصيله فاننا نحاول قدر الامكان اخفاء التفاصيل القذرة التي لها علاقة مباشرة بالرجولة أو بالانوثة . وقد يكون السبب اننا نحن ايضا، ضحايا التعذيب، لا نرى طريقة اخرى صالحة لاستخراج معلومة هامة من الموقوف لو قدر لنا يوما ووصلنا لكراسي السلطة ..فالثقافة واحدة سواء لدى الباحث او الضحية.. لقد هزتني نصوص الذاكرة العراقية وشهادات معتقلي ابو غريب قبل احتلال العراق وحكايات سجن قصر النهاية واقتلعتني من الزمن الحاضر لتعود بي لأكثر من عشرين سنة.. تكلست في خاطري صورة باب السجن المدني بالعاصمة يوم ان قررت المحكمة العسكرية اطلاق سراحي ...لم اكن اتصور ان خروجي من هناك في ساعة متاخرة عن الوقت الاداري العادي كان باتفاق مسبق بين الاجهزة المختصة.. انفتح الباب الرئيسي للسجن وكانت تونس العاصمة تحت امطار غزيرة لم أر مثلها اطلاقا ..لم أشم بعد رائحة الحرية حتى اختطفتني سيارة أمن كان فيها ثلاثة من رجال الشرطة بلباس مدني... لم افهم ..قلت لعل الادارة ارادت ان توفر لي سيارة من سيّاراتها لتوصلني في هذا الجو الممطر! طارت السيارة وكأنها تحمل كنزا او صيدا ثمينا.. وتكلم السائق مع من له النظر مازحا »ها هو عندنا... مِا لطْبَقَ لِبِيتْ النَارْ«. في تلك اللحظة بالذات قررت ان اصبح راديكاليا متطرّفا... وبسرعة وعلى طريقة »الفلاش باك« وجدت نفسي في قطار الشركة الوطنية للسكك الحديدية والسلاسل في يدي مطوقا بأعوان من الحرس الوطني في الطريق الى العاصمة على ذمة المحكمة العسكرية العليا... لأول مرّة أحسست أنّ شركة السكك ملك الشعب فعلا باعتبار انها لم تطالبني بثمن التذكرة فأنا ضيف عند الدولة ..تصوروا شبانا في العشرين او اكثر بقليل واقفون امام الضباط في محاكمة توالت جلساتها أسابيع... كل ذلك لانهم شاركوا في مسيرة أهلية ضد تردّي الخدمات الصحية في احد المستشفيات. ولما عنّ لوزير الدفاع ان يطلق سراحي سلمني مباشرة لزميله الجالس في مكتب تفتح نوافذه على عصافير باب البحر. كانت تتراقص امامي الصور واحدة تلو الاخرى ..جناح الزنزانات في 9 افريل و »صديد القاميلة« ومفاتيح الحراس وظلام النهار داخل الزنزانة وتمطط الوقت..وصياح الجلادين في أقبية الوزارة والطابق الثالث وتقاسم لفافات التبغ بين الرفاق . في الطابق الأول التقيت بفرحات... شاب وسيم جدا لم افهم كيف ارتبط بالشيوعية وربط مصيره بالبروليتاريا وهو القادم من واقع الرفاه ومجتمع الرقي الكامل.. فرحات كان يتألم من الوجع ولكنه كان يضحك بأعلى صوته ..لم اكن اعرفه من قبل اطلاقا ولم يكن اسمه من الأسماء المتداولة.. ولكن الذي حصل اننا اصبحنا اكثر من أصدقاء رغم اختلافاتنا المذهبية العميقة ...اكتشفت ان الصداقة اقوى من علاقات الرفاق احيانا... اقتسمنا لفافات التبغ وهي اغلى ما يملكه السجين ..واقتسمنا احلامنا وامالنا والامنا وسهرنا طويلا نتحدث عن البروليتاريا وصراع الطبقات وطبيعة النظام وطبيعة المرحلة والاصلاح الزراعي وحسمنا في »ماو تسي تونغ« وثورته الثقافية، حددنا تقنيات الصراع الايديولوجي في حين كانت الدماء تنزف من الارجل المتورمة وبعض الرفاق في »العنبر« الاخير تحت الارض يطالبونني بمقطع من اغنية نجاة الصغيرة »أيظن اني لعبة في يديه« فيما يطالب »البوتشة« ويريد اغنية »صباعك بسرات« وهي من أغاني الاعراس في المالوف المحلي.. وفرحات يمارس علينا محبته وعشقه الطفولي ويؤثث ليالينا بضحكته التي لن انساها اطلاقا ...في ذلك العالم القذر كنا نسهر حتى مطلع الفجر نتالم من فرط التعذيب ولكننا نمارس الضحك بصوت عال رغم الدم النازف.. لما رجعت بعد سنتين لنفس المكان، كانت الخارطة قد تغيرت وفرحات لم يكن هناك، فقد نُقل الى معتقل بعيد.. واستقبلني الرجال باكثر حب واكثر ود فهم يحقدون على العائدين الذين لم يتوبوا... كانوا يضربون دون اسئلة ..يصبّون غيضهم دون سبب واضح ..همهم الوحيد ان يفهموك أنك بعودتك الى هناك، تتحدى غطرستهم ..وهدفهم ان يفهموك نهائيا انهم الدولة وانهم البرلمان وانهم الخريطة وانه لا راد لقضائهم... شبعوا ضربا حتى سالت الدماء من الساقين.. وتورم الجسد وغام النظر وتوقف الوقت من شدة الالم والقهر ...احيانا تتمنى ان تموت حتى ترتاح من الوجع.. يتوقفون عن الجلد حين يعرفون انك على حافة الرحيل... ويغيرون من تقنياتهم في كل لحظة ..اكاد اجزم انهم اصحاب شهائد في الميدان ...يتفننون في الايذاء ويختارون اكثر الاماكن حساسية للوجع ...تذكرت ما فعلوه معي ومع كل الذين زاروا الطابق الثالث لما قرات شهادات سجناء »قصر النهاية« في بغداد... نفس الطرق ونفس الاحساس بالالم... في هذا العالم السفلي المنقسم الى تسعة عنابر تفتح كلها على ساحة كبيرة، اكتشفت عشرات الرفاق والاصدقاء..استقبلوني بالترحاب رغم الاوجاع والجروح التي مازالت مفتوحة تنزف ..وهناك سهرنا للفجر نغني »حمل الزهور اليّ ..كيف أردّه« ونقرأ قصائد احمد فواد نجم وبدر شاكر السياب و »نيرودا« ونردد اعذب ما غنّى »جاك برال« ونجاة الصغيرة فضلا عن أننا حسمنا المسألة الوطنية وقررنا الاصلاح الزراعي ..وفصلنا الخلاف بين »تروتسكي« و »ستالين«... تتالت الليالي وتشابهت.. تحقيق في الوقت الاداري وسهرات شعرية وغنائية في الليل تتخللها مناقشات حادة .احيانا كانت الارجل تنزف دما ونحن نتناقش ونختلف حول طبيعة النظام وشكل السلطة هذه الصور لا تنسى ..ولا تمّحي من الذاكرة فهل يمكن ان أتقبل حديثا من وزير عن الديمقراطية وحقوق الانسان هدد امامنا احدى رفيقاتنا بالاعتداء عليها ..وكال لها من الفاظ السوق ما يتعير منه سكان تونس الشرفاء ..هل ننسى ما فعله نور الدين وعبد القادر وعبد السلام وحسن بعشرات المناضلين النقيين المقبلين عن الحياة... هؤلاء لا بد وان يكونوا احيلوا للتقاعد.. أسالهم ماذا يحكون لاطفالهم ولاحفادهم عن ماضيهم؟ ماذا يتذكرون؟ ومن يتذكرون من ضحاياهم؟ ام ترى هم ايضا اصبحوا ديمقراطيين مثل وزرائهم السابقين؟ ان كانوا مسلمين فعذابهم في الاخرة، وان كانوا كفرة فعذابهم في الدنيا لا محالة. هذا العالم عالمنا ..وهذه الارض الطيبة ارضنا.. وهذا الشعب العظيم شعبنا.. ولا يمكن للتاريخ ان يمسح من ذاكرته اوجاعنا والامنا.. وقد يكون ما قاسيته هناك قليل جدا امام ما وقع لكثير من الرجال والنساء ..فالروايات كانت تصلنا في ذلك القبو العميق عن بطولات نادرة لرفاق نذروا انفسهم لقضية الحرية ..كنا احيانا نسترق السمع لاحاديث اعوان الحراسة وهم يتبادلون الروايات حول صمود الرفاق في الطابق الثالث... هناك في تلك الغرف السوداء المظلمة تداول الجلادون بالضرب والسب والبصاق والعنف اللفظي وهتك الاعراض على رجال ونساء اعتقدوا جازمين ان للوطن عليهم حق وامنوا انهم ملاك وليسوا متسوغين لوطنهم وليسوا خدما عند عصابات »صبّاط الظلام« ولجان الرعاية والميليشيات... من هنا مرت قوافل المناضلين من المدارج الى الطابق الثالث الى الأقبية السوداء تحت الأرض... سالت دماؤهم فوق طاولات الادارة ومازالت بقايا اللحم البشري عالقة في أظافر الجلاّدين... من هنا مرّ نور الدين وجيلبار واحمد وحمّة وصالح والنوري والكيلاني وعشرات وعشرات. ومن هنا مرّت بهيجة وعائشة وروضة وراضية ودليلة وعشرات من حرائر تونس. عشرات بل مئات من الشبان والشابات في احلى ايام العمر.. حلموا بالحرية والعدالة والديمقراطية ..دفعوا اجسادهم وكرامتهم ثمنا لذاك الحلم ..وصرف البعض الغريب تلك التضحيات »شيكات« وأجورا في البرلمان ومناصب وأحزابا تتغذّى من الناتج الوطني الخام ولا دور لها سوى »الريق والتصفيق« ...تركنا احلى ايام عمرنا في المعتقلات وتوحدنا مع كراسي التعذيب وقطف الغرباء الانتهازيون ثمرة تضحيات الاجيال. لذلك هزّتني فصول كتاب فتحي بلحاج يحيى مثلما فعل بي كتاب جيلبار نقاش ومثل ما فعلت بي شهادة احمد بن عثمان الردّاوي وقصّة حمّة الهمامي. هذه القصص والبطولات لا بد وان يقرأها جيل التسعينات وجيل القرن الجديد بل كل الأجيال. هذه الشهادات لا بد وان تنشر للعموم وان يطلع عليها اولادنا وبناتنا.. وتاريخ التعذيب يمكن ان يكون مدخلا لكتابة تاريخ اليسار فاجيال الستينات والسبعينات والثمانيات عاشت اهوالا لا توصف وحكايا غريبة وفيهم من مات وفيهم من ذاق عذاب الاخرة في الدنيا وكلهم يحملون جروحا في اجسادهم او في قلوبهم لا تندمل لمجرد أن بعض المترفين أمضوا على عريضة تطالب بالعفو التشريعي العام.