مع بداية موسم الصيف ، وككل موسم صيف يبدأ عمالنا المقيمون في الخارج في العودة إلى أرض الوطن ، عودة متميزة بكل المقاييس تقوم لها الدنيا ولا تقعد ، بدءا بوسائل الإعلام التي تخصص وصلات إشهارية مثيرة للترحيب بهؤلاء العائدين المحملين بالعملة الصعبة ، وليس انتهاء بوزارة الداخلية التي تخصص مكاتب خاصة لاستقبال هؤلاء الذين نجحوا في إثبات وجودهم في دول أوربا ، غير أنهم ظلوا مرتبطين بوطنهم يعودون إليه خلال كل عطلة صيفية ... تهب نسائم الصيف ، محملة بعبق لقاء الأهل والأحباب ، ومسربلة بطعم الحنين إلى مسقط الرأس ، وممتزجة بالأشواق الفياضة لجلسات الشاي تحت أفياء الدوالي التي تجود بكل ما اختزنته طوال السنة فرحا بمقدم البعيد / القريب ... يتغير وجه مدينتي شيئا فشيئا ، سيارات بمختلف الألوان والأحجام والأنواع تكتسح شوارع المدينة الهادئة الوديعة المستقرة باطمئنان بين مرتفعات جبال الأطلس الكبير ، يتزايد عدد السيارات تباعا يوم بعد يوم ، إلى أن تضيق جنبات الشوارع ذرعا بهذه الوفود الحديدية القادمة من وراء البحار ، ولعل في ذلك أكبر مؤشر على التغيرات التي ستطال المدينة على امتداد العطلة الصيفية ، بدءا بطريقة لبس الفتيان والفتيات اللواتي لا يجدن أدنى غضاضة في ارتداء ألبسة مثيرة شفافة تعلن تخلصهن المطلق من قيود وأعراف وتقاليد أمهاتهن وجداتهن ، ومرورا بلغة التواصل التي تعلن العصيان المدني على الأمازيغية إلى أجل مسمى حيث تتغير الأسماء والأفعال والحروف ، وتتغير تبعا لذلك علامات التعجب وأساليب الاستفهام ونقط التفسير ، أما طريقة السياقة فلا غرابة في أن تكون فرصة من بين الفرص المتاحة لتحدي السلطات والأعراف ، ولإيصال رسالة مفادها أنهم تحرروا من شبح " البولسي " الذي طالما وظفته الأمهات للتغلب على عناد طفولتهم وتعنتها ، ومن " غول " المخزن الذي سكن أعماقهم طوال مدة إقامتهم هنا ، أما العادات الغذائية التي ترافق عودة العائدين فأكثر من أن تعد ومن أن تحصى ، فهذه تشترط حضور الشوكلاتة خلال وجبة الإفطار ، وهذا يفضل " الكوكاكولا " خلال وجبة الغذاء ، والأخرى لا تطيق تناول الكسكس خلال الفترة الليلية ، أما طريقة تفكير هؤلاء لمهاجرين فإنها تختلف تماما ، وهذا ما يتجلى في إقبالهم الغريب على متع الحياة بلا حسيب ولا رقيب ... ما هذا الذي يقع ؟! ما هذه التغيرات المفاجئة التي تهزك يا مدينتي هزا ؟! ما هذه الصور الغريبة التي تجتاحك اجتياحا ، والتي تلونك بألوان الزيف والمكر والخداع ، لتخفي ملامح الفطرة والحقيقة والبداية فيك ؟! ما هذا الطوفان الجارف الذي يجعلك يا مدينتي غريبة عن نفسك ، تعيشين اغترابك بمرارة لا تعادلها مرارة ، تتمزقين أسفا وألما وحسرة على المسخ الذي يسعى جاهدا لتحطيم كبريائك واعتدادك بنفسك ، تصرخين بصوت مكتوم رافضة هذا "الاستعمار" الجديد الذي ينتعش موسميا كلما ارتفعت درجة الحرارة ، تمتلئين حقدا على هؤلاء الوافدين الذين تنكروا لدينهم وهُويتهم و لأصولهم وذواتهم لينخرطوا باستسلام تام في لجة الدولة المحتضنة الغالبة ، وتنتظرين بفارغ الصبر لحظة رحيلهم الذي سيكون ذات يوم دون رجوع ... ولعلك تعترفين أيتها الصامدة في وجه الغزاة الظالمين ، أيتها الشامخة في وجه أمواج الزمن العاتية ، أيتها الواقفة بثبات ويقين في وجه الإغراءات والفتن ، وفي وجه التهديدات والهجومات ، أن هذا الجيل المغترب حتى النخاع يختلف تماما عن الجيل الأول الذي لم تزده تجربة الهجرة إلا تشبتا بأرضه وبجذوره وبأصوله ، والذي كان يدرك جيدا أن هجرته إلى هنالك لا تعدو أن تكون فرصة لتحسين مستوى المعيشة ، ولاذخار أموال تمكنه من بناء مسكن يحتضنه بعد تقاعده عن العمل حين يجتمع ضده الضعف والشيب معا ، بل إنهم كانوا يستشعرون العداء الدفين ضد " النصارى " الكفار الذين أذاقوا شعوبنا الأمرين ، واستنزفوا ثرواتنا استنزافا ، وأعلنوها حربا شعواء على ديننا وحضارتنا وقيمنا ولغتنا ... أين يكمن المشكل إذا ؟ بل منذ متى بدأ هذا الفرق بين الجيلين ؟ بعض من أصحاب الفراسة القوية ، وأصحاب الغيرة الدينية تكبد وحيدا مشقة الغربة ، ورفض رفضا قاطعا اصطحاب الزوجة والأبناء معه إلى الديار الأوروبية ، فاكتفى بالعودة الموسمية كل سنة ، ثم التزم بإرسال واجبات الإنفاق للأمهات اللواتي تحملن مسؤوليات جسام خوفا على أخلاق الأبناء وعلى ثوابت الأسرة ... وعلى عكس هؤلاء فضل آخرون اصطحاب الزوجات والأبناء إلى العالم الآخر ، وهنالك كانت بداية القطيعة بين الجيلين : جيل الحفاظ على الثوابت ، والتشبت بالأصول والجذور ، وجيل التنكر لكل شيء ، والثورة على كل القيود التي تحد من الحرية ومن الحقوق التي تشبعوا بها في المدارس والمعاهد ... لا يجد المتتبع والمهتم أدنى صعوبة في اكتشاف هذا الصراع والفصام بين الجيلين ، داخل العائلة الواحدة تصارع اللغة الفرنسية اللغة الأمازيغية ، وتواجه قيم العري والإباحة والاختلاط قيم الحياء والعفة والاستقامة ، وتتحول البيوت إلى فضاءات للمواجهة العلنية والصراع العنيف من خلال لقطات تبرز حقيقة الحروب التي يعيشه الآباء هنالك ، بل حقيقة الصدمات التي يصابون بها يوميا هنالك ، بعدما أيقنوا أن الزمام أفلت من بين أيديهم ، وأنهم أصبحوا عاجزين على تربية أبنائهم وفق مبادئ الشريعة الإسلامية السمحة ، وعلى ضوء سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي قدم أروع وأعظم نماذج تربية النشء ، ليدركوا أخيرا أنهم دفعوا ثمن اختيارهم الفاشل غاليا جدا ، لأنهم أصبحوا بلا حول ولا قوة ، يستنكرون بقلوبهم ويلوذون بالصمت والخضوع والحوقلة ... عمالنا المهاجرون ، أيها الشباب العائد من دنيا أوربا / الأحلام ، رفقا بقوارين أصبحن يشترط الهجرة إلى الخارج مهرا للزواج منهن ، وطارت عقولهن بحثا عن فارس أحلام قادر على دفع هذا المهر مهما كان دينه ، وكيفما كان خلقه ، رفقا بتلاميذ أصبحوا يرون المستقبل جواز سفر ووثائق إقامة تخول لهم الفرار إلى ما وراء البحار حيث أوهام المال والسيارة وكل أسباب الحياة السعيدة ، لذلك فقد أعرضوا تماما عن عالم الدرس والجد والتحصيل ، وجعلوا سلة المهملات مصيرا لأحلام الدراسة التي لا تعوضها كنوز الأرض ، وضربوا عرض الحائط نصائح وتوجيهات كل الأساتذة ، رفقا بآباء وأمهات احتاروا في أمر التعامل مع شباب مسكون بهاجس الفرار ، ولا شيء غير الفرار ، رفقا بأساتذة أصبح هاجسهم الأكبر مغادرة فصولهم الدراسية لأنهم تدمروا تماما بعدما أصبحوا يشعرون بأن مهنتهم ( النبيلة ) صارت بلا معنى وبلا رسالة وبلا جدوى ...