1: أزمة الديمقراطية العربية يحرص النظام العربي على تأكيد كون الديمقراطية ليست واحدة وعلى أنّ لكل شعب ديمقراطية تنسجم مع عاداته وثقافته ووعيه... يقول حكام العرب أنّ شعوبهم ليست مؤهلة بعدُ للديمقراطية بما هي أرقى النظم السياسية وبما هي آلية لإنتاج السلطة والنظم والأفكار وإحداث التدافع الإيجابي بين المختلفين والمتناقضين.
النظام العربي لا يكف عن إنتاج نفسه وعن التناسل في الأفكار والخطاب والممارسة... مصطلح الديمقراطية طارئ في قاموس النظام العربي ودلالاتهُ مكيفة محليا بما ينسجم مع دوام السكون السياسي والغلاف الأمني والهرج الثقافي والاستثراء الغرائزي... ديمقراطية مُعلبة تسوّق في الخطاب العربي الرسمي يلوكها الرسميون كما الزبيبة لتحلية الخطاب السياسي وللتماهي مع الحداثة في الشعارات الجميلة والمصطلحات الثقيلة. نكاد نجزم بأنّ الديمقراطية لا تستعمل في الخطاب العربي الرسمي إلاّ لإفراغها من دلالاتها حتى إنّ العامة ناهيك عن النخبة لم تعد لتصدق أيّ وعد من مشتقات الحرية والديمقراطية. نكاد نجزم أيضا بأنّ الحملات الانتخابية الصاخبة التي تنظم من حين لآخر ليست إلاّ أشبه ما يكون بما يُفتعلُ من ضجيج وزغاريد لتبديد صرخات الأطفال المختونين.
2: الانتخاب والاغتصاب الانتخاب يعني استخراج النخبة، والنخبة هي البعض من الكل، ولمعرفة النخبة لا بد من معرفة الكل، وهو ما يستدعي أن يكون الناخب على دراية واسعة بمختلف المترشحين من حيث برامجهم ومشاريعهم السياسية والثقافية والاقتصادية ومن حيث صدقيتهم ومبدئيتهم.. كما يستدعي أن يكون ذا حرية وإرادة فلا يكره ولا تغتصب إرادتهُ. والحرية تقتضي أن يكون الناخبُ آمنا على معاشه وعلى سلامته البدنية والنفسية فلا يؤذى بسبب موقف أو وجهة نظر أو ترشيح جهة على أخرى.
هل يمكن الحديث عن حرية انتخاب في ظل الأمية السياسية حيث تصنع الحملات الإعلامية رأيا عاما في أسرع وقت وحيث تجيّش المشاعر ضد طرف أو مع طرف وحيث يساق الأميّون سياسيا إلى وجهة لا يدركون عاقبتها؟ وهل يمكن الحديث عن حرية اختيار حين تُرفع أمام الناخب ذي الحاجة وعودٌ مغرية أو وعيدٌ مهلكٌ؟ "من يملك قوتك يملك أن يقودك ومن يطعمك يلجمك" يقول الناخب وهو يقف في طابور الماسكين "ببطاقة التموين". الأميّون لا يقدرون على الاختيار والخائفون لا يمتلكون أي قرار والمعدمون ليسوا أحرارا... فأين تقيم الديمقراطية إذا لم تقم للمواطنين قامة؟
3: الزعامة والقوامة داخل هذا الطقس العربي الغائم تجري في كلّ مرة انتخابات برلمانية ورئاسية في قطر من أقطارنا... انتخابات يعرف الجميع نتائجها قبل حدوثها، فاقدة لأيّ تشويق ومفرغة من أي مفاجآة... انتخابات لا تحتاج محللين ولا منجمين أو راجمين بالغيب... يُهنئ المترشحون أنفسهم بمجرد ظهور أسمائهم في قوائم الحزب الحاكم.
الانتخابات الرئاسية ليست أكثر من إخراج شعبوي لحقيقة مفادها أن لا انتصار إلاّ للرئيس المباشر... وهذا لا يدفع إلى الاستغراب وليس فيه من مفاجأة في بيئة ثقافية لا تقبل بالتنازل مما هو أعلى إلى ما هو أدنى في كل المستويات ولا تنظر لفقدان المواقع إلاّ بمعاني الخلع والإطاحة والإزاحة وكل المفردات المهينة... بيئة تتجند فيها الأغلبية للدفاع عن "القائد" يدفعها التسليم بحتمية الخضوع والخوفُ من أي تغيير بل الخوف مما قد يترتب عن محاولة التغيير من فوضى واضطراب أمني وزوال بعض أمان وبعض مصالح... مصطلح "الفتنة" في الوعي العربي يُضعف الرغبة في الجهر بالحق أمام سلطان لا يمنعه الصمت ونفاق الحاشية من أن يكون جائرا. لكأنّ الأغلبية تسلمُ بالقوامة الدائمة لكل ذي سلطان فلا تفترض استبداله ولا تأمل في تداول على المواقع والمسؤوليات وفق آلية هادئة عاقلة وحرة تدعى "ديمقراطية". لذلك يصطدم كل من يجرأ على السلطان بصدّ نفسي وذهني لدى العامة ويسهل عزله وتشويه صورته ولا يجد انتصارا حقيقيا من الذين انتصر لحقوقهم... العامة تنتصر للمنتصرين وتستقوى بالأقوياء... من الوهم التعويلُ على المفردات الجميلة دون امتلاك للأدوات الثقيلة... والمالُ قوّامُ الأعمال.
حين تكون كل مواد صناعة المشهد الانتخابي بيد السلطة المباشرة إذ تمتلك المصارف والإعلام والتشريع ومقبض العصا وطحين الكراسي وعصير الريح، وحين يكون المنافسون والمعارضون يتلقون التمويل والدعم من كف الغالب دائما ويتحركون بقدر اتساع أو ضيق صدره فهل يمكن الحديث عن ديمقراطية فعلية أو عن انتخابات حقيقية؟ ربما يكون علماء الاجتماع السياسي أقدر على البحث في معوقات الديمقراطية في البيئة العربية.
4: المنافسة والمؤانسة في الحالة التونسية قد لا تكون انتخابات 2009 نبتا غير عربي في منبت عربي.
المتقدمون للرئاسية من أحزاب "المعارضة" لا يدعون رغبة أو تفاؤلا بالفوز بل ويستحون من ادعاء منافسة رجل التغيير إنما هم يقومون بواجب المؤانسة في هذا الحدث الوطني الكبير... يقولون إنما ترشحوا لتدريب الشارع على سماع أكثر من صوت وعلى رؤية أكثر من صورة... آخرون كانوا أكثر انسجاما مع أنفسهم ومع خطابهم حين أعلنوا أنهم لا يقبلون بإلهاء الرأي العام بصور غير صورة الرئيس المباشر... يؤكدون وفاءهم الدائم للقائد يشبهونه بنابليون بونابرت إذ يرونه ضمانة الاستقرار والانتقال الديمقراطي الهادئ والمشروع الإصلاحي الذي لم يستنفد أغراضه مثلما يقول السيد المنذر ثابت الأمين العام للحزب الاجتماعي التحرري.
المبدئيون أو الراديكاليون كما يسميهم خصومهم ينقسمون إلى غير معنيّ بالانتخابات أصلا لما يراه من عدم توفر شروطها وإلى راغب في خوضها بمنافسة جدية وندية نظريا المبدئيون أولئك يشتركون في كون البيئة السياسية غير مناسبة لخوض انتخابات حقيقية ويؤكدون على ضرورة "انفصال" الحزب الحاكم عن مؤسسات الدولة القضائية والإعلامية والمالية و... وهي مطالب تبدو شرعية ولكنها غير عملية في مجتمع لم يرْقَ بعد إلى المدنية ومعاني المواطنة التي تجعل المؤسسات تدافع عن نفسها ضد كل محاولات الاختراق أو الاحتواء.
5: ال25 بالمائة وصناعة الطمع ما كانت السلطة لتعِد "المعارضين" بنسبة 25 بالمائة من عدد مقاعد البرلمان لو لم تكن متأكدة من فوزها الدائم الساحق الماحق ولو لم تكن مطمئنة لضعف وعجز تلك الأحزاب عن أي منافسة جدية في طقس سياسي غير مناسب للسباق . بعض تلك الأحزاب تُستعمل كمحاضن لمحاولة احتواء ما تيسر من المشردين سياسيا حتى لا يقعوا في معسكرات التدريب الإيديولوجي. تلك الأحزاب لا تشكل أدنى قلق للسلطة ولا تضيق عليها مساحة القرار والانتشاء وهي لا تعبر عن تمايز واضح مع التوجه الرسمي في السياسة الداخلية والخارجية إلاّ في تفاصيل لا تزعج ولا تبهج... وهي إذ تتنافس فيما بينها ففي كسب ودّ النظام المقتدر وفي تأكيد أحقيتها بأوفر امتياز وأكثر عدد في مقاعد البرلمان...
تلك الهبة خلقت نزاعا وتآمرا داخل تلك الأحزاب نفسها إذ يطمع أغلب المنتسبين في أن يكونوا نوابا في البرلمان حتى الذين انضموا حديثا لحزب من تلك وهم لا يفقهون لا في السياسة ولا في الكياسة أصيبوا بأوهام وأطماع كما لو أنهم قبالة غنيمة مشاعة لكل ذي ناب من الجشع... تلك لصوصية وقحة يقترفها انتهازيون يرون الوطن بغير أعمدة ولا أبواب يطمعون أن يقعدوا منه مقاعد علية وليسوا جديرين بها... لصوص أولئك وجشعون وعاقون إذ لا يدركون أحجامهم وإذ يجرأون على الوطن يتكلمون باسمه ولم ينتدبهم لذلك. وإذا كانت السلطة تقصد بال25 بالمائة تجريع الشعب فلسفة التعدد والتنوع فإنها خلقت لصوصية سياسية وطمعا وأوهاما وجرأة على الوطن لدى فارغين عديدين استسهلوا التكلم باسم الشعب وهو لا يعرفهم ولا يذكر لهم صوتا ولا فكرة ولا تضحية.
6: الانتخابات والرهانات سيصوت الناس وبكثافة إلى الرئيس بن علي وستنتصر قائمات التجمع كلها، وسيتأكد أنّ من "يُمسك" بمعاش الناس هو الذي يجلس على كل الكراسي، وهو الذي يمارسُ كرم "الضيافة" في البرلمان يوسع المجالس لعابري السبيل والمتطوعين للتجريب السياسي يُذيقهم مما يشتهونه ولا يقدرون عليه.
ولكن يُخشى أن تكون مرحلة ما بعد 25 أكتوبر 2009 هي مرحلة الغموض والرهانات الغائمة... لا تأثير لأهواء الجماهير في سنن الطبيعة... يمضي الزمن بأعمارنا سواء كنا من الفاعلين أو كنا من القاعدين وتحصل في المجتمعات تفاعلات قد لا ينتبه إليها السياسيون ولا يتوقعها خبراء الرصد الأمني... ثمة ما يكفي من خمائر المفاجآت... وإذا استوت الرؤوس فسدت النفوس.
على المشتغلين بفنون السياسة وعلى البارين بالوطن أن يتأملوا عيون أولادهم وبناتهم جيدا إن كانوا جديرين بابتسامة متفائلة وبنومة هادئة وباستقامة قامة لا تتهددها رياحٌ ولا أعاصير... الوطن بما هو تاريخ وجغرافيا وثقافة وثروات هو أكبر من كل الأشخاص وأوسع من كل الأحزاب وأعمق من كل الإيديولوجيات.
لا حاجة لخطاب التجريح ولا للمفردات العضوضة لا تنتج فكرة ولا تصنع وعيا ولا تنير سبيلا... لا حاجة للمزايدين في بطولات وهمية ولا للمبالغين في الولاء الزائف... "الوطنية" ليست غريزة سياسية أو شحنة للاستفراغ الانتخابي، إنها وعي عميق بالانتماء وشعور دافق بالمحبة والمسؤولية، يحتاج الوطن من يحبه لا من يقول أنّه يحبه، المستثمرون في "الوطنية" هم الخطر المحدق بالمستقبل حين ينشغلون بممارسة نهمهم الغرائزي غير مستشرفين ولا متفائلين وكأنّ الزمن الوطني فرصة انتخابية وضربة حظ قد لا تتعدى دورة واحدة.
الذين أرغِموا على الصمت... يحلمون جيدا... والحلم أضغاث أو رؤيا... والذين أوذوا يتذكرون جيدا وجوه من دهسوا على دمائهم ومن لوَوْا رقابهم وأحرقوا رغيفهم.
الذاكرة مستودع الأحداث القادمة... السلطة المنتصرة دائما تملك ما يكفي من القدرة ومن الآليات لجعل مرحلة ما بعد 25 أكتوبر مرحلة أكثر تفاؤلا وانشراحا.
متفائلون بأن "شرعية الغلبة " كثيرا ما تشق مسارب نحو مشاريع الإصلاح والتنمية والعدالة والحرية... للوطن خارطة واحدة... وللضاربين فيه مواقيت مختلفة.