رمضانيات 1431 آه ، لو أنني أعرف لغته (17) الدكتور عثمان قدري مكانسي تبدو عليه سيماء اللطف والذوق ، يلقاك بابتسامة ترتاح لها ، ويحييك رافعاً يده كلما دخل مكاناً كنتَ فيه ، ويلفظ كلمات أفهمها تدل على السلام والترحيب ، أستطيع أن أفهم كثيراً مما يقول لأنني درست لغته الإنجليزية حين كنت طالباً في المدرسة ، لكنني لا أستطيع أن أكلمه أو أجاريه في حديثه كما يفعل من عاش في بلده أو تعلم فيها أو كان من أهلها . رآني أصلي فسألني عما أفعل ، فقلت له أنا مسلم ، فبدأ يسألني عن الإسلام ، وكنت قادراً على حواره وتعريفه بالإسلام لو كنت أحسن لغته ، وتألمت مرتين ، أما الأولى فلأنني لا أملك أداة الحوار فأروي ظمأه في معرفة ديني ، وأما الثانية فلأنني عاجز أن أقوم بواجب الدعوة في أرض خصبة لا يعرف الكثير من أهلها حقيقة الإسلام . يقولون: من تعلم لغة قوم أِنَ مكرهم ، وأزيد قائلاً : من تعلم لغة قوم دخل إلى حياتهم ، وعرّفهم بالله تعالى ودعاهم إلى عقيدة التوحيد ، فهدى الله على يديه أقواماً وأنقذهم من النار ، وأقام الحجة على الآخرين وأعذر إلى الله . أمّا أنْ أرى نفسي مكتوف اليدين في موقف يمكن أن ترى نور الإسلام فيه مشعاً فأمر يحز في النفس ، وتصورت نفسي في نهر يعجّ بالأسماك بين يدي ، وأنا عُطل من شبكة الصيد . آه لو كنت أحسن لغته ، ولكنْ : ليتَ ، وهل تنفع شيئاً ليتُ ؟! . كنا ندرس اللغة الأجنبية لننجح آخر السنة ، ليس غير ، ولم نكن ننظر إلى البعيد ، كنا قاصري التفكير آنيي الهدف ، ولم يكن من ناصح يعلمنا التفكير السليم ، المتقدّم النظر إلى الهدف البعيد ، أو قراءة ما وراء السطور في صفحات حياتنا . ولم نكن نعلم في باكورة أيامنا الهدف الحقيقي من الحياة ، وكان الجهل قاسماً مشتركاً في بيئتنا آنئذٍ. وتقودني هذه الذكرى إلى أنْ أمسك القرآن الكريم وأقرأ في سورة إبراهيم " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)" وأنتبه إلى حكمة إرسال اأنبياء إلى أقوامهم حصراً، فهم يتحدثون ب " بلغتهم " ويعلمون منها كل شاردة وواردة ، وهم بهذا الأقدرُ على الدعوة إلى الله ومخاطبة الناس بما يفهمون ، وأذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه " " لم يبعث الله عز وجل نبيا إلا بلغة قومه " وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم قال ابن كثير رحمه الله : هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريد ربهم منهم . فلما كانت رسالة الإسلام عامة ، وقد كانت الرسالات قبله خاصة أرسل الله تعالى نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم للعرب والعجم وغيرهم فقال تعالى : " " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا " [ سبأ : 28 ] ." قال القرطبي رحمه الله في هذا : ولا حجة للعجم وغيرهم في هذه الآية ; لأن كل من ترجم له ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة يفهمها لزمته الحجة , وقال صلى الله عليه وسلم : ( أرسل كل نبي إلى أمته بلسانها وأرسلني الله إلى كل أحمر وأسود من خلقه ) . وقال صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى عالمية الإسلام : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . أخرجه مسلم . فأكد أن الدين عند الله الإسلام ، وأن على الأمم الأخرى من أهل الكتاب أن يتبعوه ليكونوا من أهل الجنة ويفوزوا برضا الله تعالى . يروي أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : ... 5- وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة . " وقال تعالى مخاطباً رسوله الكريم مؤكداً عالمية دعوة الإسلام " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " . فإذا بالعجم يحملون الدعوة إلى أقوامهم كما نزلت على الحبيب المصطفى طرية كاملة لا نقص فيها ولا كدر . حدّتني أحد الشباب من تلاميذي أنهم كانوا ثلاثة من الشباب ذهبوا إلى دار صديق لهم في ولاية أمريكية تبعد عن مدينتهم ساعتين ، وكان موعد زيارتهم له عند المغرب ، فلما وصلوا إلى بيته قبله – وكان في عمله وعاد من طريق مزدحم – صلوا المغرب في حديقة عامة قريبة من داره ، وأمّهم أحدُهم . ولما رأى المارة ما يفعلون أوقف الفضولُ بعضهم فسألوهم عما كانوا يفعلون ، فأخبروهم أنهم مسلمون وقد كانوا يصلون ، فتعجب هؤلاء الأمريكيون من صلاتهم في مكان عام ، وهم يصلون في الكنائس فقط . ودار حوار بين هؤلاء الثلاثة ، وانضم الرابع إليهم حين وصل وكانوا يحسنون الإنجليزية بطلاقة وبين الأمريكيين – عددهم سبع عشرة بين رجل وامرأة - زهاء ساعتين ، فآمن سبعة وأعلنوا شهادة " أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " ووعد خمسة أن يدرسوا الإسلام ويتعرفوا عليه ، فكان تأخر الرابع عن الوصول إلى بيته في الوقت المناسب خيراً وبركة ، فقد كان مكسبٌ عظيم لمن هداه الله للإسلام ، وإقامة للحجة على الباقي .... .