مادامت الفتاوى تتساقط علينا في الصبح والمساء كحجارة من سجيل لترجمنا أو كالمن والسلوى لتغرينا، فإن 'الإسهال' الفقهي لن يقف عند حد، ولن يتوانى كل من هب ودب عن الإدلاء برأيه، وتقديم النصح للمسلمين. ألم تقترح الآنسة كوندليزا وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، ورئيسها بوش، في زمن غير بعيد، حذف آيات قرآنية لم تعد تتماشى مع متطلبات الشرق الأوسط الكبير والجديد. آخر الفتاوى الغريبة صدرت عن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي آل على نفسه أن يكون القيم على كل الأديان السماوية مركزا اجتهاداته على الإسلام والمسلمين في فرنسا. فقد تفتقت قريحة هذا الرئيس، الذي يريد أن يمسك بكل الملفات اللائكية والدينية، عن رؤية معاصرة للصوم تتماشى وقيم الجمهورية. فاقترح في مسجد باريس، الجمعة الماضية، أن يتناول المسلم الفرنسي إفطاره على الساعة الثامنة قبل ذهابه إلى عمله محافظا بذلك على عادة فرنسية متوارثة تتمثل في شرب القهوة واكل 'الكرواسون' صباحا! واستند نيكولا ساركوزي في خطابه إلى أن المسلم الفرنسي هو فرنسي أولا. ويجب أن لا يتخلى لأي سبب من الأسباب عن عادة احتساء القهوة مطعمة بالكرواسون صباحا. فباسم المحافظة على قيم الجمهورية، والدفاع عن 'لائكية' فرنسا يصبح شرب القهوة قبيل الذهاب إلى العمل فرضا على كل فرنسي مهما كانت ديانته. والمحافظة على هذه العادة الأصيلة شرط أساسي من شروط المواطنة والاندماج والانتماء. وقد دعا السيد ساركوزي، وهو يبدي براعة في تأويل الآيات والأحاديث، مواطنيه من المسلمين إلى أن يتخلوا عن صلاة التراويح مميزا بين مسلمي الشرق ومسلمي أوروبا قائلا: 'إخواني المواطنين، صلاة المسلم الفرنسي لا يمكن أن تشبه صلاة مسلمي الشرق لذا فإنه لا معنى لمواطن أوروبي أن يقضي ساعة وساعتين بعد العشاء في صلاة التراويح، التي اتفق علماء المسلمين على أنها ليست فريضة. وعليه إخواني فلقد أصدرت قراراً جمهورياً يدعو مساجد فرنسا لإغلاق أبوابها بعد صلاة العشاء مباشرة، حتى ينصرف المواطن إلى بيته ويستمتع بمشاهدة الأخبار وبرامج التلفزيون الفرنسي'. والسؤال الذي يطرح الآن هل أن الرئيس الفرنسي المُثقل بالملفات السياسية والاقتصادية في إجازة رئاسية طارئة حتى يتفرغ لصلاة التراويح عند المسلمين، ولنصحهم بشرب القهوة صباحا قبل ذهابهم إلى العمل. هل يستطيع ساركوزي القيم على كل الأديان السماوية في فرنسا، أن يميز بين يهود الشرق ويهود الغرب، وأن يصرح بذلك علنا؟ هل يستطيع هذا الرئيس أن يتدخل في شأن الكنيسة، وأن يقترح أفكارا جديدة معاصرة. إن الرئيس الفرنسينيكولا ساركوزي، الذي استشعر الخطر، وتأكد من تدني شعبيته يريد أن يعود إلى المراتب الأولى. وهو يدرك بحكم خبرته السياسية، أن الفرنسي حساس كلما تعلق الأمر بالأمن وبالأجانب. فهو يريد دغدغة المشاعر النائمة، وإيهام الفرنسيين الذين يخفون كرههم للأجانب ولا يظهرونه إلا في شكل أصوات انتخابية، بأنه القادر على حماية فرنسا من هجوم الأجانب عموما والمسلمين خصوصا. لقد استوعب ساركوزي خطاب اليمين المتطرف. وأعاد صياغته من دون تغيير في المحتوى. وهو يكتفي في خطابه السياسي بتلطيف الكلمات واللعب على المشاعر. ويبدو أن طريق الإليزيه، عند ساركوزي، لم يعد آمنا. وهو لا يريد إلا أن يستمر في قصره لولاية ثانية بكل السبل، حتى إن اضطره ذلك إلى أن يلبس عمامة الإفتاء بعد أن نجح في أن يجعل 'البرقع' فرقعة إعلامية أتت أكلها إلى حين. ' كاتب تونس