تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدين حياة الشعوب :عبد الله أيت حسين
نشر في الحوار نت يوم 14 - 09 - 2010

من يستعرض التاريخ البشري على وجه الأرض سيجد أن المجموعات البشرية في أي عصر من العصور وفي أية حضارة من الحضارات كانت تمارس إلى جانب أنشطة الحياة الأخرى طقوسا وتقاليد وسلوكيات، تتخذ طابعا فرديا أو جماعيا، تعبر فيها عن عجزها وشدة ضعفها وعن حاجتها إلى قوة قاهرة أو قوى قاهرة تستعين بها وتستمد منها القوة لتعويض هدا العجز، فكثير من الأمور التي تقع للإنسان لا يستطيع أن يتحكم فيها وكثير من المخاوف والهواجس والتساؤلات ليس في مقدور العقل البشري أن يجد تفسيرا لها، وأكبر هده التساؤلات على الإطلاق هو دلك الذي يتعلق بمصير الإنسان بعد الموت، فهل يعقل أن نحيا فقط لنموت، أن نستمتع بالحياة ونعيشها لنتوجه إلى التراب مرة أخرى؟ من هنا كان من الضروري لتلك المجموعات البشرية من الاعتقاد في وجود قوة أو قوى قاهرة تتصرف في شؤون الحياة وتسيطر على الكون. فكانت العبادة وكان التقديس، عبادة النجوم والبرق والرعد والنار والشمس والقمر والأحجار والتماثيل والحيوانات وحتى الإنسان نفسه.. كل شيء فاق قدرة الإنسان الفعلية والتصورية فانه مستحق لأن يكون إلها وهكذا لابد من تخصيص هدا الإله ببعض الطقوس والعادات لاسترضائه واتقاء غضبه وطلبا لمساعدته وعونه. ومع تقدم العمران وتطور الإنسان في الارتقاء بسبل العيش أصبحت المعابد مسرحا لممارسة تلك الطقوس والسلوكيات والمكان المقدس الذي تقدم فيه القرابين للإله أو الآلهة.

الدين عبر التاريخ:

في الحضارات القديمة كان للدين عند الأمم قداسة كبيرة وقيمة عظيمة تتجلى في بناء المعابد والاهتمام بشأنها واعتبارها مكانا مقدسا ومحترما، وكانت طبقة الكهنة، الدين يلعبون دور الوساطة بين الناس والآلهة، من الطبقات المهمة في المجتمع إلى جانب طبقة الحكام والنبلاء. ففي الحضارة المصرية كانت الآلهة أمون ورع وأوزريس من أشهر ما كان يعبد ويقدس وكان الفرعون نفسه معبودا ومقدسا فالمصريون كانوا يعتقدون أنه اله وينحدر من سلالة الآلهة، ولما كان المصريون من أشد الشعوب تدينا فقد اهتموا بالحياة بعد الموت واعتقدوا أنهم سيحاسبون على أعمالهم وأنهم سيبعثون بعد موتهم فقاموا بحفظ جثت موتاهم وتحنيطها وتحويلها إلى مومياء ووضع كتاب يسمى كتاب الموتى مع الميت ليستعين به في الدفاع عن نفسه أمام محكمة الإله أوزريس . أما في بلاد الرافدين فقد كان بناء المعابد من أوكد الواجبات على حكام السومريين لأنها تجلب الخير وتطرد الشر وكان لكل مدينة إلهها الخاص، كذلك الشأن بالنسبة للأكاديين الذين عبدوا نفس آلهة السومريين بالإضافة إلى الإلهة عشتار إلهة الخصب والقوة والنصر. وكان الآشوريون والبابليون ممن خلفوا معابد في غاية الإبداع والجمال وعبدوا مظاهر الكون والثالوث النجمي: الشمس والقمر والزهرة واعتقدوا بوجود الأرواح الشريرة. وفي الإمبراطورية الفارسية ظهر المجوس، وهم كهان الفرس القدماء الذين كانوا يعبدون النار، وأول أتباع الديانة الزرادشتية التي تؤمن بوجود اله للخير أهورا مزدا واله للشر أهرمان، وهدا الصراع بين اله الخير واله الشر قائم إلى نهاية العالم حيث سينتصر أهورا مزدا على أهرمان في اعتقادهم. أما في الحضارة الهندية فكان للدين والجانب الروحي شأن عظيم فأعلى طبقة في المجتمع الهندي القديم تضم الكهنة والمكلفين بشؤون الدين والآلهة، وأهم الآلهة هو الإله فيشنو الخاص بالأوساط الأرستقراطية والإله سيفارودرا الذي اشتهر بالقرى والبوادي إضافة إلى المعتقدات البوذية التي تضمنت دعوة بودا، أي المستنير، والتي اعتبرت العبادة والدين أمرا شخصيا لا صلة له بالمجتمع ولا بالنفوذ. كما كان بعل همون أكبر الآلهة التي كان القرطاجيون يقدسونها إلى جانب ثانيت وأشمون وملقارت، وكان لدى الإغريق عدد لا يحصى من الآلهة وأكبرها زيوس وهو أبو الآلهة والبشر في اعتقادهم وباقي الآلهة أسرته، فزيوس يتخاصم مع امرأته هيرا ومع أبنائه، وكانت لديهم أنصاف آلهة والهة شبيهة بالبشر ويبنون المعابد ويقدمون الذبائح للآلهة، وفوق هدا كله فان الآلهة في المجتمع الإغريقي القديم كانت مصدر الوحدة لدى الإغريق فالتجمعات الدينية في الأماكن التي يعتقدون أن الآلهة تتردد عليها من أكثر ما يوحدهم ويجمع شملهم... وأول ديانة توحيدية تدعو إلى تخصيص اله واحد دون سواه بالعبادة هي تلك التي بشر بها النبي إبراهيم الذي ظهر في الألفية الثانية قبل الميلاد في صفوف العبرانيين. وهدا فقط ما أرخت له كتب التاريخ، لأن التاريخ البشري المكتوب كما هو معروف لم يبتدئ حتى 3500 قبل الميلاد، ولكن ما تحمله كتب الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية يخبرنا أن مسيرة التدين والعبادة على كوكب الأرض والعلاقة بين الله وبين الإنسان بدأت مع أبي البشرية وأول ادمي وطأت قدماه الأرض وهو ادم، وهده العلاقة لم تنقطع ولم تعرف التوقف وكانت مستمرة طيلة الفترة التي تواجد فيها الإنسان على وجه الأرض إلى يومنا هدا في الألفية الثانية بعد الميلاد.

الدين أفيون الشعوب؟!!

إلى أن يصبح الدين مخدرا للشعوب يمنعها من التقدم ومن التحضر وعائقا أمام تحرر الشعوب وأمام دوران عجلة الحضارة فدلك ما لا يقبله عقل عاقل ولا يصدقه تاريخ الحضارة البشرية على وجه الأرض، فلم يكن الدين أبدا سببا من أسباب العجز والتخلف ولم يكن يوما عاملا من عوامل التدهور والسقوط. وأما أن يكون الدين مخدرا للشعوب، بمعنى أنه دواء يستعمل لتنويم الشعوب وشغلها عن السعي وراء أسباب العيش وعن الاهتمام بالسياسة أو المطالبة بحقوقها، فدلك وجه من وجوه الحق ،وليس بالحق كله، يؤكد التصاق الدين بوجدان الشعوب ويثبت أنه عنصر مهم في حياتها ومحرك لمناحيها المتعددة. فكون الدين يستطيع أن يخدر الشعوب فهدا يعني أنه متجدر في وجدانها وينبع من أعماقها وضرورة من ضروريات حياتها التي لا يمكنها الاستغناء عنها أو العيش من دونها كباقي الحاجيات الضرورية الأخرى كالأكل والشرب. والوجه الآخر لهده المقولة، ونصف الحق الآخر المطموس، هو أن الدين محرك الشعوب، فادا كان هناك من يستطيع أن يروض الشعوب ويستخلصها لنفسه ويسخرها لمصالحه الشخصية ولأطماعه الذاتية باستعمال الدين كوسيلة وكأداة لبلوغ تلك الغايات، فان هناك أيضا من استطاع أن يوقظ شعوبا نائمة على فراش التخلف والوحشية والبربرية ويوحدها ويؤهلها بواسطة الدين لتصبح شعوبا متحضرة وتبني حضارة متقدمة. وسواء استعمل الدين لتثبيت وترسيخ الحكام والملوك والأباطرة على عروشهم، كما وقع لروما عندما تنصرت في البداية وللمطالبين بالخلافة الإسلامية في عهد الأمويين والعباسيين، أو لتبرير الظلم والقمع ولتزيين التقشف والفقر ولتكريس الجهل والأمية وأنظمة الاستبداد والاستعباد، كما فعلت الكنيسة بأوروبا في قرونها الوسطى، أو لاستبعاد المواطنين عن الخوض في أمور السياسية وشغلهم وصرفهم عن الاهتمام بشؤون حياتهم والمطالبة بحقوقهم بإرهابهم وتخويفهم بأحاديث النار والعذاب والجحيم، أو حتى لاحتلال أراضي الغير واغتصاب حقوقهم واستباحة دماء وأعراض شعوب أخرى، كالدولة الصهيونية التي احتلت فلسطين بناء على معتقدات دينية تقوم على "شعب الله المختار" و"مملكة الرب" و"إقامة هيكل سليمان" و"الأرض الموعودة"...إلى غير دلك من الأشياء السلبية التي تحط من قدر الإنسان وتسلبه حريته والتي رأى الكثيرون أن الدين هو الذي يقف وراءها وهو السبب فيها مما صور الدين في أعينهم عدوا للإنسان لابد من محاربته ومناصبته العداء. ولأن أوروبا عانت كثيرا من الاضطهاد والاستعباد ومن نتائج الاستغلال الكنسي للدين فقد كان ميلاد العلمانية واستئصال شأفة الدين في صيغة العلمانية المتطرفة أمرا طبيعيا له ما يبرره، وان كان من الممكن أن يتم إصلاح الأمر دون اللجوء إلى تهميش الدين والقضاء عليه تماما في فرنسا بتلك الوحشية التي تم بها دلك، وسواء استخدم الدين لأغراض دنيئة أو لتحقيق طموحات وأطماع شخصية قد تجر معها الدمار والاضطهاد لبني البشر أو لأغراض شريفة، هي هدف الدين الأصلي، تهدف مصلحة الشعوب واستصلاح أمورها فان كل الذين يتهمون الدين بأنه الانعكاس الطبيعي لصور التخلف والرجعية والجاهلية والداعين إلى إقصائه من الحياة لا يفهمون، أو لا يريدون أن يفهموا، أن الدين ليس هو المسئول عن نتائج استغلاله واستخدامه وإنما المسئول هم أولئك الذين يفسرونه للناس بهذا الشكل أو داك ويخضعونه لتأويلات تتماشى مع ما يسعون إليه أو تدعم ما يطمحون إليه، والحل ليس في إقصاء الدين وتهميشه لتجنيب الشعوب ويلات الحروب الدينية أو للحيلولة دون سوء استخدامه أو تسخيره بطرق سلبية، وإنما يكمن الحل الأمثل في العمل على استعمال الدين لخير البشرية، لأنه وكما ذكرنا عن الوجه الآخر والسلبي في فهم الدين، فان الدين في الوجه الآخر كان عامل نهوض لأمة من القبائل العربية نخرت جسدها الانقسامات والصراعات لا تملك من زاد الحضارة شيئا وموحدا لشعوب كثيرة شكلت نواة الحضارة الإسلامية ، وكان في كثير من مواقف التاريخ الدعامة التي استندت إليها حركات التحرر ضد الاستعمار ونبد الظلم وشكلت الحركات الإسلامية على الخصوص والزوايا خط الدفاع الأول الذي تعرض للمستعمرين والغزاة، وحتى في أوروبا نفسها كانت مواجهة الدين بالدين ومواجهة الفساد الديني بالإصلاح الديني هي التي أطلقت صفارة النهضة وكان رجل الدين مارتن لوتر في بداية القرن السادس عشر هو مهندس دلك الإصلاح وتلك النهضة التي شهدتها أوروبا أنداك قبل أن تتعالى أصوات المفكرين والفلاسفة ويتحرر العلماء من اضطهاد محاكم التفتيش ويسيروا خلف الحركة البروتستانتية الإصلاحية ولكن سرعان ما زاغت دعواتهم عن خط الإصلاح وتنقلب إلى عداء للدين وحقد على كل ما له صلة بالغيبيات والإلهيات. ولما كان شأن الدين عظيما في حياة الشعوب إلى هده الدرجة، بحيث يستطيع أن يشل حركة الأمم ويقعدها كما يستطيع أن يشفيها من شللها ويرفع هممها عاليا ودلك حسب الفهم والقراءة لتعاليم الدين، فان إعلان الحرب عليه هي خسارة مؤكدة للذين يريدون خوض هده الحرب، لأن محاولة طمس وإقصاء مكون هام من مكونات الكيان البشري هو محاولة لتعطيل هدا الكيان وزرع الخلل فيه، فالدين بغض النظر عن كونه عامل استعباد أو عامل استنهاض للأمم والشعوب، فهو كان حاضرا دائما في حياتها ومؤثرا في مجرياتها وتقلباتها، وكلما هبط مؤشر الدين في أمة عن مستوى الاعتدال والوسطية ليصل إلى حدود الانحلال والتفسخ أو ارتفع ليبلغ مستوى الغلو والتطرف كلما تكالبت عليها الأزمات والكوارث واستشرت فيها الأمراض النفسية وظهرت عليها أعراض الطغيان والانحطاط إلى مستوى الحيوان. وإنما الذي يصبغ الدين بلون من الألوان دون آخر هو طبيعة الفهم والتأويل وزاوية النظر إلى معتقداته ونصوصه، أما الدين في أصله وفي صلبه فهو ثابت وان تغيرت الفروع جزئيا وتجددت على مر الأزمان، فكل سبيل يسلكها الإنسان، أيا كان هدا الإنسان، لإقامة العدل والمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية ورفع الحيف والظلم عن بني الإنسان فهي سبيل الدين.

الدين اليوم:

إذا نظرنا إلى الدين اليوم نلحظ أن تواجده في مراكز القرار وتأثيره في توجيه السياسة والاقتصاد وقيادة العلوم قد تقلص إلى حد كبير فبلغ في بعض البلدان درجة الانعدام، كما أن الدين لم يعد كما كان بالأمس ممارسات وسلوكيات وشعائر تعبدية ومركز السلطة الذي يرجع إليه في كل صغيرة وكبيرة، فأصبح اليوم مجرد تصورات ذهنية وأفكار قابلة للتغير والتبدل ولم يعد عقيدة ومرجعية يعود إليه الفرد والمجتمع لبناء مواقفه وصناعة قراراته وقناعاته، وكثرت الدعاوي في الشرق والغرب إلى نفي الدين من واقع الناس وقصره في حدود حريات الأفراد وشؤونهم الخاصة، وصارت دراسة الأديان تتم بعرضها على المختبرات العلمية وإخضاعها لعلوم الاجتماع بكل فروعها وأغفلت المصادر الرئيسية الخاصة بكل دين والتي تشكل في مجموعها هدا الدين أو داك. ورغم هدا التهميش والإقصاء للدين الغالب على ربوع العالم من قبل مراكز القرار والنخب الحاكمة فان الضغوطات النفسية والاضطرابات اليومية التي تفرضها الحياة في هدا العصر وطغيان التوجه المادي وتعقد المعيشة لا يترك للأفراد متنفسا آخر غير الاستنجاد بالدين والهروب إلى قاع الوجدان حيث طمأنينة النفس وصفاء الروح التي تقهر المادة وتخفف من غلوائها وحيث الملذات والشهوات تجد ما يسكتها ويوقفها عند حدها، وان كانت ظاهرة التدين والإقبال على الدين عند كثير من الشعوب اليوم تتسم بالطابع الفردي وبتطبيق أجزاء من الدين على مستوى الفرد الواحد ولا يشمل دلك كل أفراد المجتمع الواحد في مجموعهم، فنجد أن كل فرد يأخذ من الدين بما سيسأل عنه لوحده أمام الله وبما أمر به ونهي عنه كشخص مستقل عن الجماعة ويهمل الجميع ما خوطبوا به من الدين ككل مجتمع وكأفراد في كيان واحد وليس كأفراد مستقلين. الدين لدى شعوب أخرى يأخذ على أنه نوع من الثقافة يخلد في مناسبات أو يحتفل به على شكل أعياد أو عطل رسمية موسمية أو يعتبر ترفا فكريا تعقد من حين لآخر ندوات ومؤتمرات لدراسته أو لمناقشة بعض مواضيعه، ولنأخذ مثلا كل الدول التي تقضي دساتيرها على أنها دول إسلامية فننظر في شأن شعوبها وسلوكهم وأفعالهم لنرى أي شيء يحملنا على وصفها بالشعوب الإسلامية، ولنأخذ بعض المشاهد البسيطة من واقع شعوب تلك الدول لتتضح لنا الرؤية قليلا. أولا مشهد مباراة كرة قدم مذاعة في التلفزيون وأدان صلاة المغرب أو العشاء يؤدن في دلك الوقت، كم واحدا يقوم من مكانه ويتوجه إلى المسجد؟ المشهد الثاني: قف في أي مكان شئت في أحد الشوارع، والأفضل أن تجلس عند باب إحدى الثانويات أو الجامعات وقم بتعداد الفتيات والنساء اللواتي تتوفر في لباسهن شروط الحجاب الإسلامي(ليس الخمار ولا النقاب وليس حجاب روتانا). المشهد الثالث: افتح جهاز التلفاز واحسب عدد القنوات المتخصصة في بث البرامج الدينية وعدد القنوات المتخصصة في الغناء والأفلام والمسلسلات؟ المشهد الرابع: إذا حضر أحد الفنانين المشهورين لإحياء سهرة في مدينتك، ما حجم التغيير الذي يحدثه دلك في شوارع المدينة تلك الليلة؟ ثم قارن دلك مع عدد الحضور في درس ديني أو ندوة علمية أو أمسية قرآنية؟ مع العلم أن السهرة تدوم لساعات طوال والدرس لا يستغرق أكثر من ساعتين. للأسف، ورغم أنهم يحسبوننا مجتمعات إسلامية، سنخلص إلى أنه لا شيء في سلوكنا وفي عاداتنا وفي حياتنا ككل يحكمه الدين الإسلامي، فحتى بطاقات الهوية أو بطاقات التعريف الوطنية لا تفيد بأننا مسلمون ولا تشير إلى دلك ولو إشارة بسيطة، وأصدق تعبير على حال المسلمين ما قاله فيلسوف الإسلام في عصره جمال الدين الأفغاني: " انصرفنا عن الأخذ بروح القران والعمل بمعانيه ومضامينه إلى الاشتغال بألفاظه وإعرابه، والوقوف ببابه دون التخطي إلى محرابه".

على مر التاريخ يتغير كل شيء، تتغير النظم السياسية والاقتصادية وتتبدل، وتتطور القوانين والعادات وتتخذ الحياة أشكالا وأنماطا أخرى، ولكن الدين يبقى هو الدين لا تغيير ولا تبديل، لا يعرف الزوال بزوال المبشرين به أو بعض الدعاة إليه أو موت جماعات تعتنقه، وتبقى الحروب الدينية والطائفية كذلك نفسها لأن الخصم هنا ليس دولة أو جماعة أو تنظيما وإنما هي العقائد والمسلمات التي تتبناها وتعتنقها والتي لا تقبل المساومة ولا الجدل. فكثير من العادات والتقاليد التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا أصبحت اليوم بالية ومنسية أما بالنسبة للدين فحتى وان كان موروثا، وهدا حال الكثيرين للأسف لا يجددون إيمانهم وإسلامهم بالمعرفة والعلم والتفكر والتدبر، فليس من السهل أن تقنع شخصا مهما كان أميا وجاهلا بتعاليم دينه أن يبدله والمسألة هنا تتعدى مسألة عادة موروثة فالمقدس شيء لا يحكمنا فقط بل انه يتجاوزنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.