أبوالسعود الحميدي حادثة انزال العلم التي هي في مقام الجريمة في حق الوطن كشفت في وقت مبكّر حقيقتين على درجة عالية من الأهمية كانتا موضوع اقتناع بعض الأوساط وأصبحتا الآن محل اجماع وطني : الأولى أن دوائر السلفيين لا يمكن أن تقف عند حدّ في معاداة الوطن واستهداف أمنه والاستهتار برموزه أشخاصا كانوا أو مؤسسات أو قيما معنوية . والحقيقة الثانية تتمثّل في فشل النهضة وكذلك الحكومة منذ تركيزها في ديسمبر 2011 في ادارة ملف السلفيين الذي استأثرت به في غفلة من الزمن وبدون تفويض من القوى السياسية والمجتمع المدني . الحقيقة الأولى قد لا تحتاج الى تحليل طويل فهذه الفئة ( السلفية ) التي حشرت حشرا ضمن القوى السياسية الوطنية واستفادت من العفو التشريعي العام بعد أحداث "سليمان" الدموية وغيرها ويحرص البعض على جعل التعامل معها مستساغا ومحبّذا (لم لا ؟) لم تخف يوما أن لها مشروعها المجتمعي الذي "تناضل" لتحقيقه واتّضحت مواقفها خصوصا بعد انتخابات 23 اكتوبر 2011 .هذا التيار اتخذ لنفسه رموزا خاصة به تساعده على التميّز عن غيره والاعلان عن أنه ذاهب بثورة تونس الى أشواط بعيدة . رأينا لباسهم المختلف نساء ورجالا ورأينا أعلامهم السوداء ("سود وقائعنا " كما يقول الشاعر ) ورأينا الأسلوب الذي يطبقون به على المجتمع ان هم تمكّنوا منه من خلال ما يفرضونه على الأحياء الشعبية التي يسيطرون عليها من اكراه وسلوك غليظ وعلى الادارات وهياكل الدولة ان هم وضعوا قدما فيها . وقضية كلية منوبة مثال حي على ما نقول . كما رأينا سعيهم الى الاتجار بالسلاح وتخزينه واستعماله (في بئر علي بن خليفة والروحية) و ربما حمايته (جندوبة ) بمجرّد أن خفتت نجاعة هياكل الدولة بعد الثورة وتطوّرت الأحداث في ليبيا بما يوفّر امكانيات كبيرة لهم للتّسلّح . أما الحقيقة الثانية فهي الأهم رغم ما أثارته سابقتها من كلام وردود فعل حماسية . وهي تتمثّل في فشل النهضة والحكومة في ادارة الملف السلفي . ولكي نفسّر رأينا علينا أن نعود قليلا الى أرضية 18 اكتوبر التي قاربت بين حركة النهضة وبرامج المعارضة الديمقراطية في قضايا عديدة منها المرأة والمشروع المجتمعي والمؤسسات الديمقراطية ومصدر التشريع . الا أن النهضة اكتشفت بعد الثورة وربما قبل ذلك دون الاعلان عنه أن هذه الأرضية تباعد بينها وبين السلفيين الذين تكاثروا في تونس وأصبحوا قوّة لا يستهان بها واعتبرت بالتالي أنها يجب أن تواصل الاقتراب من السلفيين ومحاورتهم في رؤاهم وأساليب "نضالهم " وأولوياتهم دون وضوح الهدف من هذا التّمشّي بالنسبة الى الرّأي العام والملاحظين : هل هو لهدايتهم الى سواء السبيل باعتبار أنهم مغالون في عقائدهم وكسبهم الى مشروع النهضة بعد أن تكون قد تجنّبت الحرج من مواقفهم وممارساتهم ؟ أم لايجاد أرضية مشتركة بينهما للمراحل القادمة وهم على قناعاتهم تلك وعلى علاتهم ؟ أي بلغة صريحة هل أن المحاورة كانت لكسبهم أو لاستخدامهم و توظيفهم ؟ ويصعب علي شخصيا الحسم في هذه القضية رغم أنها جوهرية . ولكن لماذا نستعجل الجواب والأيام القادمة ربّما تقدّم لنا أجوبة وأكثر منها : تفسيرات شافية لما نتطلّع اليه من معرفة . المشكل المرتبط بهذه القضية أن الحركة الديمقراطية المناهضة لمشروع السلفيين لم تضع الموضوع في اطاره المناسب منذ الثورة . ولم تعر أهمية لمساعي السلفيين لتكريس مشروعهم في أي رقعة سيطروا عليها رغم مواقفهم الجلية والممارسات التي يقدمون عليها في وضح النهار .وخصوصا لم تنتبه القوى الديمقراطية الى أن محاورة هذه الفئة لا تعود الى حركة أو حزب يتطوّع لذلك بدعوى امتلاك العدّة النظرية والقدرة "العلمية" وانما تعود الى المجتمع بأسره وقواه الحية صاحبة المشروع الديمقراطي الحداثي , وهذه القوى يمكن أن تفوّض لاحداها (ولتكن حركة النهضة ) ولكن بشرط أن تعلم النهضة من وكّلها التفاوض أوّلا بأوّل بنتائج المحاورة وتعرّجاتها لكي يتم اعلام الرّأي العام بذلك في ابانه وتتّخذ الاجراءات التي يتطلّبها الوضع في كل مرّة وتكون التزامات الأطراف معلومة لأنّها تمسّ مشروع المجتمع الوطني وعليها يتوقّف مصيره . النّهضة من جانبها استساغت الوضعية ولم تلتفت الى مخاطرها ورأينا راشد الغنوشي يتحدّث عن شبّان يذكّرونه بشبابه ينظرون بايجابية كبيرة إلى السلف الصالح ويتبنون ما ورد في القرآن والسنة و أن التيار السلفي الذي هو ليس شيئا واحدا حسب رئيس الحركة في ندوته الصحفية بمقر الحركة يوم الخميس 23 فيفري الماضي "لا يتبنى الفهم العنيف"، و أنّ السبيل مع هذه الأفكار هو "الحوار وليس العنف ".مبرّرا بروز ظاهرة السلفية بالفراغ الديني المتولّد عن تهميش بورقيبة للزيتونة وقمع بن علي للحركات الاسلامية ومنها النهضة . وتجلّى موقف النهضة الملتبس خلال متابعتها لازمة كلية الآداب بمنوبة والتي لم نر لها جهدا في حلّها رغم اقتناعنا أن لها من الامكانيات والوسائل ما يسمح لها بحسمها . والغريب أنها كحركة على لسان رئيسها راشد الغنوشي وكحكومة أيضا من خلال موقف وزير الداخلية علي العريض لم ينفكّا يعرّضان بموقف العميد الحبيب القزدغلي حيث دعت النهضة في بيان لها يوم 7 ديسمبر 2011 العميد الى الابتعاد عن معالجة موضوع الطالبات المنقبات واعتصام العناصر السلفية (وعديد منهم من خارج الكلية ) على أساس اديولوجي وأكّد الوزير في برنامج "المشهد التونسي " على الوطنية 1 يوم الاربعاء 7 مارس 2012 أن العميد يريد ادامة المشكل وقال : " السيد العميد لم يساعدنا . وارجّح وجود رغبة في اطالة هذه القضية من طرف ادارة الكلية لأني لم الاحظ أنها حريصة على انهاء المشكل " ويضيف : "اذا أردنا أن نجد حلا فيجب أن يتخلّى الجميع عن التّسييس سواء ادارة الكلية أو هؤلاء الشباب ". الأصل في المشكل ليس مواقف العميد الذي كان في كل مرّة معززا بقرارات المجلس العلمي ورئاسة الجامعة وممثلي الاساتذة والطلبة والاداريين . والحل ليس في وضع العميد والسلفيين على نفس المسافة من الحقيقة أو اتهام العميد بالمعالجة الايديولوجية للملف وانما في وضع حد للمراهنة الخاسرة على كسب تيار لا يجمعه بهذه البلاد وهذا المجتمع وهذه الثورة سوى وهم محاوريه بامكانية كسبه أو توظيفه لبناء ديمقراطية عن طريق من لا يؤمن بها .