لم يختلف التقرير السنوي الذي أصدرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين المتعلق بالحريات كثيرا عن تقرير السنة الماضية إلا في نقطة واحدة تقريبا، وهي أن وضعية الحريات الصحفية ازدادت سوءا كما ازداد واقع الصحفيين تشاؤما. فالسلطة التنفيذية بمختلف أجهزتها تبدو غير جادة في التعامل مع ملف الإعلام في تونس الذي يعاني من التلكؤ والمماطلة والتعيينات المُسقطة في شقه العمومي. ويعاني من التسويف والضغوطات والهرسلة في شقه المُصادر. ويعاني من المال الفاسد والتمويل المشبوه والأجندات المتأرجحة في شقه الخاص. دون أن ننسى الواقع المرير الذي تعيشه الصحافة المكتوبة التي تعيش على شفا الاندثار. وطبيعي أن تؤثر هذه الهشاشة في الواقع الإعلامي في مدى الالتزام بالمعايير المهنية وبالأخلاقيات الصحفية. ولعل أزمة وباء كورونا التي تعيشها بلادنا كما تعيشها أغلب بلدان العالم قد عمّقت في أزمة الصحافة في تونس. فعلى مستوى الأداء المهني نفسه نجد أن زمن كورونا عرّى عديد الممارسات اللامهنية داخل بعض غرف الأخبار كنشر الأخبار الكاذبة وتوظيف الأزمة لتسوية خلافات سياسية وإيديولوجية وعدم تحري الدقة والموضوعية في نقل الأخبار في زمن يُعتبر زمن حرب، مع تعمّد التلاعب في أحيان كثيرة بمشاعر الجمهور وبمخاوفه المشروعة. وعموما فحتى خارج السياق الوبائي تبدو وضعية الكثير من الصحفيين غير مريحة من الناحية المهنية والأخلاقية والمادية. ففي كثير من المؤسسات الإعلامية لا يمكننا الحديث عن حرية في الخط التحريري وتحرر هذا الخط عن سلطة الإدارة. أما على مستوى تعامل المتداخلين بالمشهد الإعلامي أو المتعاملين معه وعلى رأسهم السلطتان التنفيذية والتشريعية فتبدو الأمور سائرة عكس الاتجاه الصحيح، فالحرية التي كفلها الدستور للجميع "سمحت" للسلطة التنفيذية وخاصة الحكومة بحرية التغافل عن واقع الصحافة الصعب، فلا هي تحركت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على مستوى الصحافة الورقية التي تختنق منذ زمن ليس بالقصير، ولا عملت على تحفيز عملية الإصلاح داخل مؤسسات الإعلام العمومي التي توقفت أو تكاد كأنها غير واعية بخطورة واهمية المرفق العمومي الإعلامي الذي فقد دور القاطرة وبات يترنح من فعل ضربات التعيينات المُسْقطة على رأس مؤسساته ومشاكله الإدارية والهيكلية والمالية التي تزداد تعقيدا يوما بعد آخر. كما أنها تركت المؤسسات الإعلامية المصادرة "تندثر ذاتيا" بالمحاصرة اللصيقة وانتهاك حقوق الصحفيين والعاملين المادية كما يخصل في إذاعة شمس اف ام، وهو أمر يهدد التعددية الإعلامية التي بوزت في السنوات الأخيرة في بلادنا مع ببروز أولى لبنات الديمقراطية في 2011. وعلى غرار الحكومة "تحرر" البرلمان من التزاماته التشريعية والأخلاقية إزاء الإعلام، فلا يبدو حريصا على تفعيل مشروع مجلس الصحافة ولا حرصت أجهزته وخاصة لجنة الإعلام داخله على فتح ملف الإعلام بجدية. بل حتى الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري (هايكا) التي تُعتبر أعلى سلطة تعديلية إن لم تكن الوحيدة فتبدو أنها ستعاني كما عانت دوما من مبدأ المحاصصة الحزبية سيستأثر الحزبان الأغلبيان داخل مجلس النواب، النهضة وقلب تونس، بحرية واسعة في "انتخاب" أغلب أعضائها. واقع حريات تعيس يزداد سنة بعد أخرى ويتعمق بتكثف الضبابية التي تحيط بالصحفي نفسه فتؤثر على مخياله وعلى تمثّله لهويته ولمهنته في تجسيد صارخ للمفارقة الكبرى: الصحافة سلطة رابعة من جهة وفرسان هذه السلطة يعيشون واقعا مشّا مهنيا ومريرا اجتماعيا. فكيف لصاحب سلطة الرقابة والمتابعة وحتى المحاسبة أن يمارس سلطته وهو الضعيف المُنهك والمهدد بالتبعية للسلطة التي يُفترض أن يكون رقيبا على أدائها. نعتقد أن المنظومة الإعلامية برمتها في تونس تحتاج إلى مأسسة وإعادة هيكلة وإصلاح من الداخل وكثير من الأخلاقيات الصحفية والسياسية، لأن الحرية مضمونة بالدستور ولكن تبين ان هذا غير كاف. كل عام والصحافة والصحفيون في تونس وفي العالم بخير... وعسى العام القادم ينتزع مزيدا من الحريات.