مما هو مقرّر في قواعد الشريعة أنّ ( ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ) ، وأنّ ( الحكم على الشيء فرع عن تصوّره )... ، ولذا فعلى من يتصدى للخطابة ودعوة الناس إلى الحقّ في المساجد أن يكون ملمًّا بهذا الواقع، مدركًا لأسراره، عالمًا بأصوله وفروعه، وإن لم يتخصّص فيه فعليه بالرجوع إلى المتخصّصين، انطلاقًا من التوجيه الرباني، قال تعالى: " فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ " ، فضلاً عن أنّ المتحدّث في شؤون العامّة ينبغي أن يعلم عن دنياهم، ووظائفهم وأعمالهم، وطعامهم وشرابهم، وأن يتحلّى بقدر من الثقافة العامّة تؤهله للخوض في مسائلهم الشخصيّة دون اضطراب أو مخافة جهالة.. وإذا قلبنا النظر في هذا الواقع متلمّسين فهمه ومحاولين المساهمة في الخروج من وضع أمّتنا الحالي إلى المكانة اللائقة بها، لوجدنا أنّنا أصبحنا همًّا على أمّتنا، وأدرك أعداؤنا سرّ تأخرنا، ومكمن مصيبتنا، وأساس بليتنا، فعاثوا في الأرض فسادًا، يتآمرون ويخطّطون، ونحن في غفلة عما يُكاد لنا، انشغلنا بأنفسنا عن عدوّنا، وبدنيانا عن ديننا، فلا ديننا يبقى ولا دنيانا تعمر وترتقي.. وليس الاهتمام بفقه الأحداث والوقائع، وتثقيف الداعية بأحوال العامّة وحياتهم من حوله، بدعًا من الأقوال والأفعال، بل كان عليه مدار اهتمام الأنبياء والصالحين والمصلحين، وقد حفل القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة والواقع العملي لحال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والمصلحين من الأمّة بأمثلة زاخرة تدلّ على اهتمامهم بمعرفة واقعهم ودراسته قبل أن يبدؤوا أي تحرّك فيه، مع اهتمامهم بواقع الناس وما فيه من أفراح وأتراح.. فها نحن نراه صلى الله عليه وسلم يوجه المستضعفين من صحابته بالهجرة إلى الحبشة -والحبشة خاصةً- لأن " فيها ملكًا لا يظلم عنده أحد "، وها نحن نرى المرحليّة في الدعوة ملائمة للواقع الذي تعيشه، فنجده صلى الله عليه وسلم، يختار المدينة مكانًا لهجرته، ويتعامل مع جميع الأطراف الموجودة فيها وحولها بأسلوب يناسب أحوالها، وعندما أرسل صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن قال له: " إنك تأتي قومًا أهل كتاب "، وهذا من إدراكه صلى الله عليه وسلم لواقع وحال كل بلد وما يحتاج إليه، ولذلك قال له: " فليكن أوّل ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله...". إلى غير ذلك من الأمثلة التي تزخر بها السنة النبوية الشريفة.. لم يعد لنا مزيد و غدا هناك جديد