منذ أن كان الحفل الفرنسي مجرد خبر تناقلته وكالات الأنباء والصحافة المكتوبة قبل ثلاثة أشهر كتبت معارضا وصارخا ضد هذا الاختيار ومنددا بهذا التوجه... أما وقد صار الخبر يقينا وواقعا ازدادات دهشتي من مضمون العرض ومن تهميش مبدعين تونسيين واحتقارهم واستغربت من اختيارات منظميها الذين هم رموز من النظام السابق الفاعلون أيام المخلوع وسبق لهم تنظيم كل حفلات وسهرات واحتفالات التجمع وسيدة قرطاج وحاشية المخلوع وعائلاتهم ومناسبات أفراحهم وكان الوزير الحالي في ندوة الحمامات التي انعقدت مع المبدعين المسرحيين قال بعظم لسانه أنه "وجد وزارة الثقافة قد تحولت إلى خلية مشرفة على الختان لابن المخلوع محمد زين العابدين وصرفت مبالغ ضخمة لذلك الحفل" ونفس هذه الوجوه عادت من جديد إلى واجهة التنظيم على ركح مسرح قرطاج في حفل مشبوه النوايا من طرف فرنسا وذلك للاحتفال بالثورة التونسية. صاحب هذه المبادرة هو وزير الثقافة الفرنسي السيد فريدريك ميتران بالاشتراك مع وزارة الثقافة والسياحة. هل يعقل أن تحتفل فرنسا بثورتنا وهي التي وقفت مساندة للرئيس السابق من خلال التصريحات والمواقف الرسمية إلى درجة أن وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة ذهبت إلى أبعد من هذا واقترحت دعم النظام السابق أمنيا لقمع الاعتصامات والمظاهرات الشعبية؟ فهل نسي السيد فريدريك ميتران أن ثورتنا هي ثورة كرامة وثورة فكرية ثقافية وليست ثورة جياع ومهمشين فهي ثورة الحرية والحق والإيمان الراسخ بمبادئ الديمقراطية التي تستند إلى بعد إصلاحي تونسي بحت وأن الثورة تستند إلى منطلقات المثقفين والمفكرين والمبدعين والإعلاميين فهي مستوحاة من رؤية حضارية مستقبلية يقضة ذات تقاليد أصلية ومتجذرة. وباعتبار خصوصية الشخصية التونسية التي هي مزيج من حضارات وثقافات شرقية وغربية شمالية وجنوبية عرفت مؤلفين ومصلحين كتبوا في عدة مجالات كالايمان ودقة العلوم وجمالية الحياة والصمود وعدم الخضوع لذلك فإننا شعب متفتح على مختلف الحضارات' متسامح مع جميع الاديان ولن ننسى مواقفك يا فريدريك ميتران من خلال تعاليقك في الاشرطة الوثائقية العديدة التي أنتجتها القنوات التلفزات الفرنسية وكنت خلالها تمجد وتهلل وتكبر لرموز العهد السابق فأنت أحد الذين اخطؤوا في حق البلاد في الداخل وفي الخارج. فنحن شعب متسامح لكنه لا ينسى. بعد ثورة الكرامة لا ثورة الياسمين كما تسمونها تغيرت تونس يا سيد ميتران وأنت ما زلت تمارس نفس الاساليب ونفس التصرفات على شاكلة هذه التظاهرة فكأني بك أنت ومن وراءك تمتصون غليان وطاقات الشباب التونسي الذين عرفوا الحقيقة وسقطت ورقة التوت التي تخفي نظرتك وتفكيرك من خلال استبلاهنا وتدعي أن الحاشية القديمة تشردت وضاعت في زحام الثورة مثل لطفي البحري وبسيّس وغيرهما؟ وربما ستنجب حسب رأيك خلفاء لهم ولكن ذلك مستحيل فالشعب انتزع من قلبه الخوف وجعلنا من الموت وسادة نريح عليها رؤوسنا من أجل كرامتنا. ولا يفوتني أن أدعو كل فئات الشعب من شباب وكهول وشيوخ ومفكرين واعلاميين وحقوقيين ومبدعين وقانونيين إلى توخي الحذر من مثل هذه الممارسات التي تهدف اساسا إلى ذر الرماد على العيون ومحاولة استبلاه الناس بتظاهرات جوفاء وبعيدة كل البعد عن العمل الثقافي الجاد. إن تونس مفتوحة يا سيد فريدريك لكل الطبقات الشعبية الفرنسية والاجنبية والعربية المتعاطفة والمتعاونة على اساس الندية لأن لها خطا أحمر لا يمكن تجاوزه ألا وهو الإساءة لثورتها كفى إذن هرولة فلقد ولى زمن المبررات والمحاباة وأؤكد لك أن في تونس اليوم لا مصالحة دون مصارحة ومحاسبة ثم الاعتذار سيدي "ميتران" لقد اطلعت على كتابك "La Mauvaise graine" وأعلمك أن من قاموا بثورة الكرامة هم بذور صالحة وليس كما تعتقد... وأعود إلى عرض "نشيد الحرية" فقد شهد هذا العرض العديد من الأحداث المضحكة المبكية من ذلك أن أصبح الفرنسيون أصحاب الداروالتونسيون ضيوفا عندهم في حين ان العرض تم في قرطاج وعلى أرض تونس وفي مجال سيادتها. هل يعقل أن يصبح رجال الإعلام في تونس يتوسلون للفرنسيين حتى يتجاوزا الأبواب ويدخلوا إلى الكواليس لتأدية عملهم لقد كانوا يومها "كالايتام على مائدة اللئام" تحت أنظار المسؤول التونسي وهو من رموز النظام السابق الذي حاول أن يجد مبررا لتصرف الفرنسيين فكانت هذه الواقعة صفعة ثانية مؤلمة بعد صفعة سفير فرنسا في يومه الأول بتونس. ولتذليل هذا الإشكال تولى الوزير السيد عزالدين باش شاوش بكل حزم وشهامة تصحيح الأمور -وهو ما عهدناه منه- وتسنى للإعلاميين التونسيين الدخول للقيام بعملهم وأروع ملاحظة سمعتها كانت على لسان الفنان الجزائري رشيد "أنتم لستم كتوانسه بحاجة إلى فرنسا لتنظيم مثل هذا الحفل أنتم قادرون على تنظيم أروع وأضخم السهرات ولستم بحاجة لفرنسا ونواياها المبيّتة وهذه كلمة حق فعبر التاريخ شهد مسرح قرطاج ومنذ منتصف القرن الماضي أروع وأضخم التظاهرات بقدرات تونسية خلاقة والمبلغ الذي تم صرفه لهذا العرض الفرنسي والبالغ أكثر من مليارين في سهرة لم تتجاوز الساعتين كان من الأجدر صرفه على الشباب التونسي الذي هاجر من لمبادوزا ودخل فرنسا. هؤلاء المشردين في شوارع باريس الذين ينامون في الساحات أو أن يتم صرف هذا المبلغ لتجهيز دور الثقافة في الجهات وحتى في العاصمة بأحدث التجهيزات وهي التي تفتقر إلى ابسط الوسائل التنشيطية فتونس يا سيد ميتران كما يقول الشاعر الفرنسي لا فونتان في قصيده الرائع "النملة والصرصار" هي دائما بمثابة النملة التي تجد وتدخر تونس مطمور روما لم تكن صرصارا أبدا يزن ويرن ولن تصبح صرصارا وشعبها ومثقفوها ومبدعوها وإعلاميوها يعوا جيدا بؤس "العظمة الغربية". ألم ترى سيد ميتران إن البغض ينهك العالم وها نحن نرى الإنهاك يعتري اسم الغرب ونرى أن أنشودة البغضاء هذه لم تفد الإنسانية فأعلمكم أن تونس التي فاجأتكم بثورتها سيكون لها الشرف لفتح صفحة جديدة وستكون القدوة للعالم بعد ثورة الكرامة. لسن الحياة الديمقراطية الحق وجب حب الإنسان لأخيه الإنسان وأعلمك أنه في كل قضية عظمى لا يكون مهمّا عدد المناضلين من أجلها بل إن نوعيتهم هي التي تكون العامل الحاسم وأخيرا أتمنى أنك استوعبت كلامي البسيط فلتحدّد فرنسا معاملتها معنا ومع ابناء تونس الكرامة بكل وضوح وشفافية إنني لا اريد دولا مطلقة الاستقلال يناصر بعضها بعضا إنما أريد وأتمنى اتحادا بين دول متصادقة يعوّل بعضها على بعض.