بالرّغم من مرور عامان على الثورة مازالت البيروقطراية والروتين الإداري يشكلان معضلة حقيقية وقائمة اليوم في تونس، فهي إلى جانب تعطليها لمصالح المواطن تعوق مسار التنمية الذي تتطلع إليه البلاد. ووصف أحد الكتاب البيروقراطية بأنها الالتزام الأعمى بإجراءات إدارية عقيمة مضبوطة سلفا لقضاء شؤون المواطن...أو بالأحرى للقضاء على شؤون المواطن... في الإدارة البيروقراطية يبرع العون الإداري في استغلال صلاحياته لتعطيل مصالح المواطن،مسببا خسائر جمة في الوقت وفي المال وفي المجهود".
وقال تتسم هذه الإدارة بإجراءات معقدة وغير واضحة وبانعدام روح المبادرة وأخذ القرار لدى موظفي الدولة: حيث يتحول الموظف إلى آلة يطبق آليا أوامر رئيسه دون فهم غاياتها إذن إلى كل حالم بقضاء شؤونه بسرعة: طاطي راسك طاطي أنت في وطن بيروقراطي".
فهناك مشكلة كبيرة تطرحها البيروقراطية لكونها تعرقل الاستثمارات فرغم الحوافز والتشجيعات القانونية والمالية لتشجيع الاستثمارات فإن عوائق عديدة مازالت تقف دون ارتقاء هذه الاستثمارات وخاصة الأجنبية منها إلى المستوى الذي يتحملها الجهاز الإداري.
وهي تمثل في الحقيقة إرثا تاريخيا وعقلية موروثة عن الاستعمار والحقبة السابقة للاستعمار فالمواطن لا يمكن تحميله أية مسؤولية خصوصا عندما يتقدم إلى المصالح الإدارية بملف مستوفي الوثائق والشروط ولا يتم البت حينيا في ملفه.
فالمؤسسة الاستثمارية تبعث في ظرف 24 ساعة في الخارج في حين يتطلب ذلك في تونس أسابيع وربما أن السبب الرئىسي وراء تفشي الروتين الإداري في بلادنا هو الهيكلة التي عليها الإدارة الآن والتي تختزل كامل الصلاحيات والنفوذ الإداري لدى المسؤول الأول على المصحلة الإدارية، مما يجعل الموظف حائرا ومكسور الجناح ولا يستطيع اتخاذ أي قرار في أي ملفّ أو خدمة إدارية مهما كانت بسيطة.
فلا بد إذن أن تقوم الدولة بإعادة هيكلة إدارتنا بطريقة يتم فيها توزيع المسؤوليات بإحكام بين الموظفين والأعوان في إطار دوائر نفوذ ومشمولات واضحة ومحددة بدقة ويكون دور المسؤول الأول فيها التنسيق بين مختلف المصالح الإدارية ومتابعة عمل الموظفين والتدخل الناجع والرادع عند الاقتضاء.
لكن الموظف يرى بأنه ليس من العدل والإنصاف أن يتم تحميل المسؤولية إلى الموظف في كل إشكال يحدث بين الإدارة والمواطن لأن علاقة الموظف بالمواطن وتعامله معه يحكمه إطار قانوني واضح لا يمكنه تجاوزه أو تجاهله وإلا فإنه سيعرض نفسه إلى العقوبة.
من جهة أخرى على الدولة والأحزاب السياسية أن يعملوا من اجل ضمان تحييد الإدارة عن المصالح الحزبية الضيقة وإلا فالصبغة الدكتاتورية ستعم البلاد من جديد سيما وأن النظام السابق شدد قبضته على الإدارة التونسية وكبل طموحات الموظفين وأجهض كل محاولات التغيير من أجل ضمان استمراره في الحكم.
ومن مبادىء تحييد الإدارة في الدول الديمقراطية هو أن تتكون الإدارة من طاقم الوزراء باستثناء الوزير الأول الذي يسمي من الحزب الفائز ليصبح في مركزه يتحلى بالحياد وتكون وزارة الداخلية بجهازها الأمني هي المعنية الأولى وكليا بعدم الانحياز السياسي في البلاد.
وعلى الإدارة أن تقوم هي بتسيير شؤون المواطن اليومية وإدارتها بكل نزاهة وعدالة كمناظرات التشغيل والعمليات الانتخابية ومختلف الخدمات إلى جانب تبسيط الإجراءات الإدارية و بما يساعد على تسيير فرص الاستثمار وضمان عدم تعطل مصالح المواطن.
كما تتأكد الحاجة اليوم إلى ضرورة تطوير الخدمات الإدارية عبر الانترنت والعمل على مشروع تفعيل الرقابة الإدارية التي تعاني أجهزتها التهميش خاصة على مستوى الموارد البشرية التي لاحظ أنها تحتاج إلى التكوين والى صلاحيات اكبر تجنبها الرجوع في كل مرة إلى الوزير لاتخاذ كل القرارات.
ولكن ما يمكن ملاحظته اليوم في تونس بأن الإصلاح الإداري لم يكن ضمن أولويات الحكومة المؤقتة التي أصبحت تواجه التعقديات الإدارية أو هشاشة القوانين المنظمة لقطاعات التجارة والاستثمار والصناعة والفلاحة وفشلت في التخلص من البيروقراطية الإدارية وتخطى قوانين النظام السابق سيما بعد استقالة محمد عبو من تولى مهمة الإصلاح الإداري ضمن الفريق الحكومي الذي تترأسه حركة النهضة.
ولطالما أرجعت الحكومة أسباب تعثر مسار التنمية إلى التعقديات الإدارية والقانونية البالية وهو ما عارضته عدد من الأحزاب السياسية التي رأت أن ما تحتاج إليه تونس اليوم هو إجراءات ثورية لإخراج البلاد من عنق الزجاجة والبدء في تحقيق الأهداف الرئيسية للثورة وهي التشغيل وتكريس الحريات والتداول السلمي على السلطة والشفافية.
يشار إلى أن الحكومة الانتقالية أطنبت في الحديث عن مشروعات واعدة في الجهات الداخلية المحرومة، وكشفت عن أرقام ضخمة رصدتها الميزانية التكميلية للتنمية ولكنها لم تتمكن سوى من صرف 50 بالمائة من هذه الاعتمادات في مشاريع تتعلق بالخصوص بتحسين الطرقات والمسالك الفلاحية.
وتبقى البيروقراطية الإدارية وتحييد الإدارة من أهم الأولويات التي يجب أن تطرح أمام طاولة النقاش بين جميع الأطراف السياسية والمجتمعية وذلك من أجل الإسراع في عملية الانتقال الديمقراطي التي لا تشمل فقط الجانب السياسي إنما تتسع لتمس الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.