تونس، بلد الفرص الضائعة. ليست مجرّد مقولة، بل واقع يتكرر كلما ظهرت مبادرة جريئة في الأفق. ففي بلد لا تنقصه العقول المبدعة، تظلّ الإرادة السياسية لتحقيق الأفكار غائبة للأسف. كثيرًا ما تُجهض الحلول قبل أن ترى النور، ولا نعلم إن كان ذلك بدافع الجهل، أو الجبن، أو اللامبالاة، أو عن قصد. الزراعة — رغم كونها رافعة استراتيجية — ما تزال رهينة الجمود، والزبونية، والبيروقراطية العقيمة. المثال الأبرز هو منصة "Wise Agriculture Exchange Trading System" التي ابتكرها ياسين غريصة، والتي تُجسّد تمامًا هذا العجز عن تحويل الإمكانات إلى إنجازات. كان كل شيء ممكنًا... لو وُجدت الإرادة إطلاق إصلاحات زراعية جادة يمكنه بكل وضوح أن ينعش النمو الحقيقي ويحسّن الناتج المحلي الإجمالي. لكن في كل مرة يُطرح فيها مشروع إصلاحي فعلي، يتكرر المشهد ذاته: تُستقبل الفكرة بالتصفيق في الاجتماعات، ثم تُدفن بهدوء. تُوأد المشاريع المبتكرة في مهدها، بعد أن تُمنح جرعة من المديح، حتى يُقال لاحقًا: «لقد سمعنا عنها». «في تونس، تُصفّق للمشاريع المبتكرة قبل أن تُدفن، غالبًا بدافع الكسل أو الحسابات السياسية.» منصة مبتكرة... لكن مُهملة تُعدّ منصة Wise Agriculture Exchange Trading System أداة فريدة من نوعها: فهي تتيح تجميع البيانات الزراعية، ورسم خرائط الأراضي، وتحديد هوية الفلاحين، وتسهيل النفاذ إلى التمويل، والبذور، والإنتاج، والحصاد، وصولًا إلى التصدير. إنها ثورة رقمية كان من شأنها أن تُبسّط كامل سلسلة القيمة الزراعية في تونس. ولو تبنّاها — ولو جزئيًا — من يفترض أن يدعموا مثل هذه المبادرات، وعلى رأسهم وزارة الفلاحة، لكانت قادرة على كسر احتكار المضاربين، وتحرير صغار الفلاحين من هيمنة الوسطاء، ودعم المصدّرين الصغار، وتوفير مئات ملايين الدنانير. معتمدة في توغو... ومهمَلة في تونس كان بالإمكان إعادة توجيه 100 مليون دينار من منح APIA للمصدرين بفضل المنصة. أما CEPEX فكان سيستطيع التركيز على أسواق واستراتيجيات جديدة. كل شيء كان يمكن أن يتم من تونس: بسهولة، وبشفافية، وبطابع وطني. لكن لا... أولئك المكلّفون بخدمة المصلحة الوطنية لم يروها، وذلك منذ أكثر من ثماني سنوات! اليوم، تُستخدم المنصة التونسية في توغو، حيث أدرك القادة هناك قيمتها الاستراتيجية. «هذه المنصة التونسية التي تجاهلتها مؤسساتنا تعمل اليوم في توغو، في دليل على جدواها.» عندما يتحوّل مسؤول رفيع إلى مروّج لمصالح مصرية في تونس؟ أحد كبار المسؤولين اقترح على ياسين غريصة أن يتعاون مع رجل أعمال مصري بحجة أنه يمتلك منصة لتجارة القطن. قال له بالحرف: «تعلمون أن العلاقات التونسية المصرية جيدة، ولا نريد إغضاب هذا المستثمر...» وعندما سأله غريصة: «وأين ستُخزَّن بياناتنا الزراعية؟» أجاب المسؤول: «في مصر!» مثل شعبي يلخّص المشهد نفرّط في أراضينا، وفلاحينا، وبياناتنا لإرضاء مستثمر أجنبي، فيما يُقصى من يسعون للبناء والابتكار والاستثمار محليًا. ثم نتحدث عن «السيادة»! في مثل هذه الحالات، يصبح رفض التنازل كما فعل غريصة عملاً من أعمال المقاومة، لأن بعض من يفترض بهم حماية المصلحة الوطنية هم من يقوّضونها بدافع الكسل أو الحسابات السياسية. كما يقول المثل الشعبي: «انتي كي قنديل باب منارة، تضوي للبرّاني وتخلي بلادك في الظلام.» «في هذا السياق، يصبح رفض التنازل عملًا مقاومًا في وجه الاستقالة المؤسسية.» متى تُرسم سياسة دعم وطنية حقيقية؟ الأمثلة كثيرة... ومؤلمة. ننتظر فقط أن يتدخّل مسؤولون وطنيون مخلصون لتنقية المناقصات من الشوائب، وتصحيح دفاتر الشروط الإقصائية، والتوقف عن معاملة المستثمرين التونسيين كالكومبارس. وإلا فستظل تونس الدجاجة التي تبيض ذهبًا للآخرين دون أن تنتفع بشيء.
14 أكتوبر 2025 – بقلم: أمل بلحاج علي اِقْرَأ النُّسْخَة الفَرَنْسِيَّة