موسم التخفيض الشتوي (الصولد) وحركة الإقبال عليه، لم تمنع المواطنين من الحديث وبصوت عال عن موجة غلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية للتونسي. في المقاهي وفي مكاتب العمل وداخل البيوت هناك حديث عن ارتفاع أسعار المواد الأساسية وهناك أيضا حديث عن تدهور المقدرة الشرائية والكلمة التي يرددها الجميع، خاصة المسؤولين عن العائلات "الدنيا صعبت"! "الدنيا صعبت" لأن المرتب الشهري لأصحاب الدخل المتوسط لم يعد كافيا لتلبية كافة الالتزامات أمام ما تشهده الأسعار من ارتفاع، من حين إلى آخر. مما يدفع نحو الاقتراض عند نهاية كل شهر، أو اللجوء إلى البنوك من أجل الحصول على قروض لا تتجاوز في أغلب الأحيان الألف أو ألفي دينار. ارتفاع الأسعار، وخاصة أسعار المواد الأساسية حقيقة ملموسة يعيشها التونسي ويشتكي منها، لكن ما هي أسبابها؟ وما هي دوافعها؟ الجهات الرسمية تفسر هذا الأمر بارتفاع أسعار المحروقات والمواد الأساسية على الصعيد العالمي، وهذا صحيح لأن الظاهرة ليست خاصة بتونس، فأغلب البلدان بما في ذلك البلدان المصدرة للنفط تعرف اليوم موجة غلاء أسعار المواد الأساسية، وثمة تشكيات من موانيها بسبب هذه الموجة، فما بالك بالبلدان التي لا تملك مصادر الطاقة، وتورد الطاقة كما تورد المواد الغذائية من حبوب وغيرها. أما المواطن العادي فإنه ينظر للمسألة بعين أخرى ولا يثق كثيرا في تأثير العوامل الخارجية ويعتبرها " مجرد تبريرات تقدم من الجهات الرسمية"... وهناك عدة أسباب تفسر عدم ثقته هذه منها الأرقام الرسمية التي تقدم حول نسبة النمو في البلاد.. والنجاحات النوعية التي حققها الاقتصاد التونسي.. والشهادات التي تقدم من البنوك والهيئات الدولية حول التقدم الذي يحرزه الاقتصاد التونسي وقدرته على مجابهة التحولات الدولية. المواطن العادي لا يتعامل كثيرا بالأرقام إلا فيما يتعلق بقفته وقدرة مرتبه ودخله على الاستجابة لمتطلبات عيشه وعيش عائلته... واليوم عندما يقول أن "الدنيا صعبت" فلأنه أصبح عاجزا عن إيجاد التوازن ويلاحظ أن أسعار المواد الأساسية تشهد من حين لآخر ارتفاعا والسبب الذي يقدم إليه هو "ارتفاع أسعار النفط بسبب تهديد حزب الله لإسرائيل" أو بسبب "اغتيال بنازير بوتو".. الخ... هذه الأسباب لا تقنع المواطن شكري الجويني (45 سنة) موظف في إحدى الإدارات العمومية يقول ".. لقد شهد العالم عدة أزمات خطيرة وعدة حروب... لكن انعكاساتها على الحياة اليومية للتونسي لم تبلغ هذه الدرجة... اليوم هناك أزمة، وهناك ارتفاع في الأسعار حتى في المواد التي تنتجها والتي اعتقدنا أننا حققنا اكتفاءنا الذاتي منها..." أما المواطن حافظ بن سالم (أب لثلاثة أطفال) فيقول "... لقد أصبح من الصعب اليوم أن تفكر في ادخار مبلغ مالي يضمن مستقبل أبنائك بسبب ارتفاع الأسعار... اليوم أصبحت أفكر في كيفية الاستجابة للطلبات اليومية والحاجيات الأساسية... مرتبي لمن يعد كافيا.. أسعار الكراء ارتفعت... حتى الحليب وصل سعره إلى 900 مليم في فترة لا تتجاوز الثلاثة أشهر..." إذا لم تكن الظروف الدولية وتقلبات الأسعار على الصعيد العالمي هي سبب ارتفاع أسعار المواد الأساسية في تونس من وجهة المواطن العادي، فما هي الأسباب؟ المواطنون الذين تحدثنا معهم لا يقدمون إجابات واضحة حول هذه النقطة.. لكنهم يكتفون بالتأكيد أن الدولة هي المسؤولة عن ضبط الأسعار ومراقبتها في الوقت المناسب عندما تكتشف أن الأمور بدأت تصل إلى نقطة تمس فعلا المقدرة الشرائية للمواطن. يقول شكري الجويني "... هناك سؤال دائما أطرحه ولم أجد الإجابة عنه: إذا كان ارتفاع الأسعار سببه ارتفاع الأسعار على الصعيد الدولي، لماذا لا تقوم الدولة بالتخفيض في الأسعار عندما تتراجع الأسعار عالميا... لقد حدث ذلك في بعض البلدان لكننا في تونس لم نعش ذلك بالمرة باستثناء ما حدث سنة 1984 عندما قرر الرئيس الحبيب بورقيبة التراجع عن الترفيع في سعر الخبز..." من خلال شهادات هؤلاء المواطنين يبدو واضحا أن هناك هوة بين الخطاب الرسمي وبين ما يدور في أذهان المواطنين... فالخطاب الرسمي لم يتمكن من إقناع المواطنين... ولم تتمكن الأرقام التي تقدم حول ميزانية صندوق التعويض وما يكلفه على ميزانية الدولة من إقناع المواطن بجدوى تدخل الدولة... كما لم تتمكن الأرقام حول تكلفة توريد الحبوب والنفط وغيرها من المواد الأساسية من إقناع المواطن. وهذه النقطة لا بد من الاهتمام بها. المواطن التونسي تأثر فعلا بارتفاع أسعار المواد الأساسية، وتأثرت مقدرته الشرائية وهو يعيش ذلك يوميا، ومن الضروري الوقوف عند هذه المسألة والبحث في سبل الحد من ذلك.