لازالت سالمة تذرف دموعها بحرارة في بيتها المتواضع بحي التضامن الشعبي تحسرا علي ايام قالت انها كانت فقيرة لكنها اسعد بكثير من الآن بعد ان فقدت ابناءها الثلاثة دفعة واحدة علي متن احد قوارب الموت المتجهة لايطاليا. لكن مثل هذه المآسي التي تعصف بعشرات العائلات لم توقف طموحات الاف الشبان التونسيين بالتسلل للضفة الاخري من المتوسط حلما بحياة مترفة تشبه حياة اندادهم المهاجرين الذين يعودون لقضاء عطلاتهم بسيارات فخمة ولو كان ذلك علي متن قوارب متهالكة مصيرها غامض في اغلب الاحيان. ويعيش حي التضامن وغيره من المناطق التونسية الاخري خصوصا المطلة منها علي البحر مثل المهدية والشابة والهوارية العديد من الفواجع المشابهة كل عام بين من يفقد في البحر ومن يعود جثة هامدة بعد غرقه. بحرقة تقول سالمة (60 عاما) التي تعيش مع زوجها المسن وحدهما لم اتخيل يوما ان يتحول حلمي وحلم ابنائي بشراء منزل جديد للعائلة بضاحية باردو الي فاجعة كبري عندما جاؤوني صيف عام 2001 بابنائي الثلاثة في نعوش . سالمة التي لم تكن تتوقع ان يكون ابناؤها بين ضحايا قوارب الموت اعتبرت ان عودة جارهم بعد عامين فقط من رحيله الي فرنسا بسيارة فخمة وزوجة فرنسية زادت امالها في رؤيتهم علي مثل هذا النحو وقلصت مخاوفها من البحر. لكن دراسة اعدها الباحث التونسي المهدي مبروك والباحثة الاسبانية لورا فاليو بعنوان الهجرة السرية في المغرب العربي لصالح المنظمة العالمية لشؤون اللاجئين قالت ان قوارب الموت لم تعد تجتذب فئة بعينها بل شملت حتي شبانا من مستويات تعليمية مرتفعة بحثا عن مظاهر الوجاهة والترف. واشارت الدراسة التي ستقدم الشهر المقبل لاول مرة في الرباط بمناسبة القمة الاورو افريقية ان اعداد الموقوفين في هذه الرحلات في تونس ارتفع الي نحو 2500 العام الماضي مقارنة بحوالي 1400 عام 2004 ونحو 700 فقط عام 1998. ويعتقد علي نطاق واسع ان اعداد المشاركين في هذه الرحلات اكبر بكثير اذا ما احتسب عدد المفقودين والغرقي وعدد من نجحوا في الوصول لاوروبا. وتقول سلوي التي فقدت اخاها رفيق في رحلة بحرية باتجاه ايطاليا انها تشعر بحرقة ولوعة لان امها ماتت حسرة علي فقدان رفيق الذي قالت انه ابلغها في اخر يوم رأته فيه اما ان اصل لفرنسا او ان اموت في البحر . وتضيف ان المستوي المادي للعائلة جيد وان اخاها كان يتلقي مصاريفه يوميا عندما يتوقف عن العمل بالمقهي منذ ان انقطع عن الدراسة بعد فشله في اجتياز مناظرة البكالوريا. وفقد رفيق عام 2003 وكان عمره 27 عاما عندما حاول التسلل لايطاليا في رحلة بحرية غرق فيها 11 ممن رافقواه. وشددت تونس اجراءتها في الاعوام الاخيرة للحد من تدفق المهاجرين علي اوروبا. وفرضت عقوبات صارمة قد تصل الي السجن 20 عاما وغرامات مالية مرتفعة علي من تثبت مشاركته في مثل هذه العمليات. هذه القوانين سارت جنبا الي جنب مع النشاط الدبلوماسي للحكومة التونسية التي وقعت مع ايطاليا اتفاقية لارسال اكثر من ثلاثة الاف مهاجر تونسي سنويا بعد الحاقهم بدورات تدريبية علي المهن التي سيعملون فيها بايطاليا. لكن كل هذه القيود لم تمنع الشاب رضا الذي يقطن بمنطقة قربص الساحلية من تكرار محاولة الوصول لايطاليا رغم انه نجا باعجوبة في الاولي وقبض عليه في الثانية. وانطلقت رحلة رضا (23 عاما) في المرة الاولي العام الماضي مع اكثر من 75 اخرين من شاطئ هرقلة قبل ان تنتهي بغرق المركب قبالة السواحل التونسية بعد مصارعة الامواج لساعات، وتسفر عن غرق وفقدان العشرات. وبينما كان هو من بين الناجين بفضل استعانته بقطعة خشب. اما المحاولة الثانية التي قال رضا انه دفع فيها لصاحب المركب الفي دينار (نحو 1500 دولار) فقد أحبطتها وحدات خفر السواحل التونسية في بدايتها عندما كان الساعون للهجرة يجهزون انفسهم علي الشاطئ. ويحل بتونس كل صيف الاف التونسيين المهاجرين لقضاء عطلات مترفة وهو امر يزيد في تغذية طموحات رضا والاف من امثاله ببناء حياة شبيهة. يقول رضا مع كل صيف يزيد اصراري علي الذهاب لفرنسا مهما كلفني ذلك. ثم ان السيارة والرفاهة ممكنة جدا بعد وقت قصير من العمل في فرنسا . ويزيد عدد المهاجرين التونسين في الخارج عن 800 الف تونسي قرابة 60 بالمئة منهم يعيشون في فرنسا. ويوفر هؤلاء المهاجرين تحويلات هامة من العملة الصعبة لبلادهم تتجاوز خمسة بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي. ويطمح الاف الشبان التونسيين الي الاستقرار خصوصا بفرنسا المستعمر السابق لتونس لسهولة الاندماج هناك وتكلمهم الفرنسية بسلاسة مغامرين من اجل ذلك بحياتهم. ويقول المهدي مبروك وهو ايضا عالم اجتماع هذه الظاهرة تزيد حدة نتيجة انتشار ثقافة الربح السريع وهاجس البحث المستمر عن مكانة مرموقة في المجتمع والسعي للوجاهة والتفاخر حتي عبر مغامرات مخيفة . وقد لا يصل خلال هذه المغامرات التي تكون في قوارب مزدحمة سوي بعض المحظوظين الي شاطئ الامان بينما يترواح مصير الغالبية بين الغرق او الانتهاء في مراكز احتجاز اوروبية. وتنشر الصحف المحلية باستمرار اخبارا عن غرق وفقدان مهاجرين تونسيين وافارقة يقدمون الي تونس بغاية الوصول لجزيرة لمبدوزا الايطالية التي لا تبعد عن ميناء المهدية شرقي العاصمة سوي 60 ميلا. وتفشت ظاهرة الهجرة السرية في تونس انطلاقا من بداية التسعينات مع غلق اخر منفذ للعبور للقلعة الاوروبية وهي ايطاليا التي كانت اخر بلد اوروبي اخضع الدول المغاربية الي اجراءات صارمة للحصول علي التأشيرة. ومنذ نحو اسبوع هزت حادثة اخري قرية التلالسة من محافظة المهدية شرقي العاصمة تونس عندما تخلت امرأة عن ابنتها الوحيدة وتسللت خلسة الي ايطاليا. وروي احد الشهود لرويترز ان المرأة تركت ابنتها الصغري لخالتها واوهمتها انها انها عائدة علي الفور قبل ان تهاتف خالتها وتعلمها بانها وصلت ايطاليا في رحلة بحرية بسبب مشاكلها المتكررة مع زوجها. نفس الشاهد علق قائلا انا متأكد ان مصير هذه المرأة سيكون مرهونا في ايدي شبكات الدعارة الدولية .