: يبدو المشهد الاجتماعي والثقافي والسياسي في تونس قلقا الى الدرجة التي جنحت معها أطياف واسعة من المجتمع الى الاحباط واليأس , حيث تخيم على أوساط شرائح ديمغرافية معتبرة أجواء من الاكتئاب والحيرة تجاه المستقبل السياسي للبلاد وتجاه الحالة المعيشية الايلة لمزيد من التعقيد في ظل تشكي الجميع من تدهور القدرة الشرائية وتفاقم مشكلة البطالة في صفوف الشباب وخريجي الجامعات وحتى حملة أعلى الشهادات ... المشهد يبدو قلقا وبشكل خطر بالنظر أيضا الى نسبة انتشار المخدرات بين صفوف الشبيبة , اذ اوردت وكالة الأنباء السعودية بالاستناد الى دراسة علمية حديثة خبر تعاطي هذه الافة من قبل عشر شبان تونس , أما بالنسبة لمعدلات التدخين فان الاحصائات الأخيرة تشير الى وجود نسبة 56 بالمائة من المدخنين بالنظر الى مختلف الشرائح العمرية وهو ماجعل تونس تحتل الترتيب الرابع عربيا بهذا الصدد. ارتفاع معدلات الانجاب خارج المؤسسة الزوجية يشكل هو الاخر مظهرا قلقا يشق البنية الأسرية للمجتمع , حيث تؤكد كل المؤشرات على تفشي الممارسة الجنسية خارج الاطار الشرعي بنسب تراوح الستين بالمائة في صفوف الذكور ونسبة تقارب 26 بالمائة في صفوف الاناث بحسب بعض استطلاعات الرأي الحديثة ... وكنتيجة عملية للظاهرة تبدو نسب تفشي الأمراض التناسلية الخطيرة في ارتفاع برغم حرص الدولة على عدم تسريب الأرقام الحقيقية للمرضى والضحايا , حيث لازالت الأرقام المقدمة لاتزيد ومنذ سنوات عن رقم لم يتجاوز الى حد الان 1428 حالة اصابة بمرض فقدان المناعة - حفظنا الله واياكم فضلا وتكريما - . وبالعودة الى موضوع العطالة عن العمل فان احصائات أخرى تؤكد وجود حوالي 50 بالمائة من حاملي شهادة الأستاذية والماجستير في حالة بطالة ... مشهد اجتماعي قلق جدا لاتعبر عن خطورته الا الأرقام ومشاهد الاضرابات النقابية المتكررة في ظل زيادة مضطردة في أسعار الوقود والمواد الغذائية الأساسية وارتفاع حاد في تكلفة الملبس والمرافق العامة والعلاج ... وعلى هامش هذه التوترات التي تحرص السلطة على تمريرها في صمت اعلامي أو على تبريرها وقبل اسابيع من حدوث مؤشراتها المباشرة عبر الارتفاع الحاد في أسعار النفط عالميا وقلة موارد البلاد الطاقية , على هامش كل هذا تطرق مسامع المواطنين أخبار المحاكمات السياسية شبه اليومية والتي تستهدف مجموعات من الشبان لم يتجاوزوا بعد العقد الثالث في ظل ماتعرفه البلاد من تأثر واضح بموجات الاكتساح السلفي غير المسبوق ... شبان تونسيون في مقتبل العمر كفروا باعلام السلطة وسياستها وخطابها الرسمي وحتى المعارض في ظل ماعرفه المعارضون من تداول مستمر على السجون والمنافي منذ عقد الخمسينات مع اندلاع أزمة التيار اليوسفي داخل أجهزة الحزب الحاكم , وهو ماجعل الشباب الصاعد يكفر بنموذج الدولة التحديثية الرافضة لتطلعات المجتمع على الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي ...! شبان لم تؤطرهم الأحزاب العلمانية ولا اليسارية ولا القومية ولاالاسلامية المعروفة بضبط ساعتها الفكرية والثقافية على التوسط والاعتدال والسماحة في حق المخالفين في الفكر والنهج السياسي ..., شبان صنعت كفرانهم بالديمقراطية ونماذج التعايش مع الدولة المركزية العربية حالات القمع الرهيبة في سجون تداول عليها ابرز المعارضين وحتى المقربين في وقت ما ... حالة تونسية عصيبة على الفهم والشرح والتفسير في ظل وجود نموذج سياسي وأمني منغلق لايحتمل توسيع المشاركة السياسية وايجاد حالة ليبرالية ثقافية وسياسية تساعد الشباب على التعبير عن نفسه بحرية في كنف احترام النفس والاخرين ... يوم أن كانت تونس تحافظ على اقدار من توازنها الحرياتي في ظل ظهور حركة نقابية وطلابية وتلمذية قوية ومنيعة , لم تكن أفكار النكوص الى الماضي التليد والغيبوبة في عالم لايلبي تحديات الأصالة والمعاصرة هي المهيمن على المشهد الثقافي أو الفكري , بل ان البلاد عرفت حركة اسلامية تجديدية معاصرة ستندم الدولة شر الندم على تفويتها في فرصة احتضانها في اللعبة السياسية بعيدا عن أساليب الهرسلة والقمع ... لقد كانت الفرصة سانحة منذ أواسط الثمانينات في المزاوجة بين حزب وطني عريق وبين تيار اسلامي مدني وسطي معتدل قابل للترويض والتشريك في مناخ ديمقراطي تركزت نواتاته الأولى ضمن فضائات المجتمع المدني قبل أن تعرف ملامسة قشرية لأجهزة السلطة ... غلب الطبع على التطبع وكشر اصحاب السلطان عن أنياب الرغبة في احتكار المشهد العام , فكانت مأساة تونس والتونسيين ذكورا واناثا منذ تزييف المشهد الانتخابي سنة 1981 , وهو ماتواصل لاحقا مع كل محطة انتخابية جديدة حرصت فيها الدولة الغول على التهام كل مقاعد البرلمان والمجالس البلدية باستثناء عظم رمت به هنا وهناك من باب تسويق المشهد السياسي خارجيا في حلة عروس ديمقراطي !!! أجيال تلو اجيال دمرتهم السجون وسجون داخل السجون وزنازين داخل الزنازين وسجانون أصبحوا ديكورا لايتجزأ من أثاث قبور مظلمة ..., أما الذين نجوا في المنافي من القوم الظالمين فهم في نظر الدولة الغول مارقون وعملاء وخونة باعوا ضمائرهم للدول الكبرى !!! مشهد قبيح تجرأ الدكتور المنصف المرزوقي في شجاعة وبسالة نادرة على وصفه بتشخيص الطبيب الماهر فكاد أن يصاب باليأس والاحباط من هول صدمة الأعراض التى اصبحت تنخر الجسد السياسي للدولة ... نخب تونسية متعلمة تتفوق اينما حلت ورحلت ومبدعون متميزون في الفنون والمسرح والسينما والرياضة والفكر والثقافة والاعلام والسياسة والعلوم والتقنية , كل هؤلاء يجدون أنفسهم في مواجهة دولة تصنع الأصنام تلو الأصنام عوض صناعة العقول الحرة والمكرمة في ظل سيادة القانون والمؤسسات وقيم العدل والمساواة ! النتيجة من الطبيعي حينئذ أن تكون صناعة ظواهر شاذة أو مغالية أو متطرفة في ظل سد منافذ التعبير والتفكير والاعتقاد الحر , اذ أننا نجد اليوم تونس بلا اتحاد عام تونسي للشغل حقيقي ولا اتحادات طلابية حقيقية ولارابطة تونسية للدفاع عن حقوق الانسان حقيقية ولا مجلس وطني للحريات الحقيقية ولا حزب ديمقراطي تقدمي يعمل في كنف الحرية ولا مؤتمر من اجل الجمهورية داخل الجمهورية - داخل السجن أو في المنفى طبعا !- , ناهيك عن حركة النهضة التي ينبغي أن يمارس عليها الأبارتايد الاجتماعي والثقافي والاعلامي والسياسي أملا في دفع مناضل واحد من مناضليها الى الكفران بها طلبا للارهاب القبيح او العنف الذي تتغذى منه الة السلطة بل تنتجه من أجل البقاء والاستمرار دون مشاركة فاعلة من قبل بقية مكونات الطيف السياسي ... ! لاسينما حقيقية حرة تتحدث عن حرياتنا المصادرة والمهدورة , ولا مسرح في الهواء الطلق يمارس النقد ولا مهرجان قرطاج ومهرجانات دولية تستضيف مارسال خليفة أو فيروز أو ماجدة الرومي أو حتى صباح فخري أو وديع الصافي أو نصير شمة -اللهم ان وقع تدمير لبنان مجددا أو عجزت السلطات عن توجيه محاصرة الغضب القومي العارم , فوقتها سيقع بعث فرقة العاشقين الفلسطينية الملتزمة حتى من كباريات الفن الشعبي !!! في ظل هذا المشهد الديمقراطي التونسي جدا , لن تسمعوا مستقبلا عن زعماء معارضين أو حتى رسميين بل أعزيكم في عبد الرحيم الزواري والبشير التكاري وزهير مظفر ومحمد الغنوشي والدكتور المنصف المرزوقي ود.مصطفى بن جعفر وحمادي الجبالي وعلى العريض ود.منصف بن سالم وحبيب اللوز وأحمد نجيب الشابي ومية الجريبي وسهير بلحسن ود.خالد الطراولي وكل الأسماء النسائية والرجالية اللامعة في سماء الثقافة والسياسة وحتى الرياضة .., فثمة جيل جديد سيصنع ردة فعله الخاصة من داخل غيتو فرضه عليه النظام بقمعه وتسلطه ولفظه لأنفاس المجتمع المدني وطاقات المجتمع الواعدة , انه جيل سلفي متخمر بأدبيات العودة الى الزمان الأول دون فقه تطلعات وتحديات العصر أو استيعاب روح الاجتهاد الاسلامي المعاصر أو تجارب الاصلاح وفنونه العالمية أو حتى مراعاة روح وجوهر النصوص الاسلامية المقدسة والتي تحفظ للناس دمائهم وأنفسهم وتقدمها قداسة واجلالا على مقام الكعبة الشريفة ..., انه جيل يخرج من الدين كما يخرج السهم من الرمية في ظل زيتونة مغيبة عن الفعل الحضاري واذاعة دينية معتدلة يتيمة ومحاصرة بكابريات فضائية , واعلام رسمي لاهم له سوى اعادة تكرير مشهد " ياسيد الأسياد ياحبيب البورقيبة الغالي " ... هذا هو واقعنا تونسيا بأمانة مع عدسات اعلامية ساحرة وغشاشة تصور لنا الأمر على أحسن مايرام ! , فهلا تنادينا جميعا -رسميين وطنيين ومعارضين صادقين- الى الخروج من هذا الواقع المأزوم عبر البحث عن مخرج مشرف يعيد لكلمات المشاركة والحوار والاصلاح والعدل والمواطنة معانيها الحقيقية ؟ كتبه مرسل الكسيبي بتاريخ 17 مارس 2008 للتفاعل مع الكاتب : [email protected] المدونة