: اسمحوا لي أن أعزي تونس وشعبها في دق أبواب مرحلة سياسية خطرة دشنتها السلطات بأحداث سليمان قبل سنة وأربعة أشهر وأردفتها بحادث اختطاف سائحين نمساويين لم يكن لهما من ذنب سوى رغبتهما في الاستمتاع بشمس تونس وجمال مناظرها الطبيعية ... صحيح أن الفاعل المباشر لهذه الأحداث الارهابية الشاذة والمنبوذة هم عناصر تشوهت لديهم صورة تحرير الأوطان بأفعال مجموعات متشددة اختطفت الاسلام من روعته حين حولته من دين اعتدال الى دين خطف وقتل وتخريب بما يتوافق مع مصالح استراتيجية لقوى خارجية كبرى. السلطات التونسية كانت أمام فرصة تاريخية لتشريك عناصر الاعتدال الاسلامي في الحياة السياسية والوطنية والثقافية منذ سنة 1989 تاريخ تنظيم أول انتخابات تشريعية شبه حرة وديمقراطية , لكنها اختارت عوضا عن ذلك تزييف الأرقام واخضاع التمثيل النيابي والسياسي لقانون انتخابي لايسمح بالمشاركة الا لعناصر الحزب الأوحد والوحيد , حزب الرئيس والحكومة والادارة والدولة ومؤسسات البلاد الأمنية والمدنية ... بعد أن تم اجهاض الحلم الديمقراطي سنة 1989 وبانتهاء الفصل الأول من وقائع تبخر أحلام التغيير , جاء الدور على الجامعة التونسية ليقع تجنيد الطلاب تعسفيا وقسريا وانتقاميا سنة 1990 , ليشهد تاريخ تونس المعاصر ثاني فصل من فصول اجهاض الحلم الديمقراطي بالنفي الى صحراء رجيم معتوق وجزر زمبرة وجالطة المعزولة والخالية من الوجود السكاني , لتشهد بذلك البلاد وفي ظرف وجيز ثاني مأساة وطنية منذ الاعلان عن وعود حالمة أجملها بيان السابع من نوفمبر 1987 . الفصل الثالث والتاريخي تعممت دائرته الجغرافية لتشمل محاكمة كل المنتمين والمتعاطفين مع حركة النهضة التونسية ذات التوجهات الاسلامية المعتدلة , وهو ماجعل البلاد تنزلق الى سلسلة من المحاكمات السياسية المدنية والعسكرية التي مازالت تشكل بصمة عار في تاريخ المؤسسة النظامية الحاكمة في ظل ماعرفته هذه المحاكمات من سلوك تشفي وانتقام أثناء مراحل التحقيق والاعتقال والمحاكمة والاقامة السجنية غير الخاضعة لشروط احترام الكرامة والسلامة الجسدية المنصوص عليهما في في كل قوانين الدول المتحضرة ... المشهد السياسي التونسي بقي موبوءا منذ سنوات التسعينات بأخبار الاعتقالات والمحاكمات السياسية المستمرة حتى بعد أن كادت السجون تفرغ من معتقلي حزب النهضة , حيث اضطر النظام الى صناعة عدو جديد يضمن له تحفيز المؤسسة الأمنية واستمرار حالة الاستنزاف السياسي للجميع عبر هرسلة كل الجسم الوطني المعارض , ومن ثمة تم استصدار قانون استثنائي وغير دستوري قيل أنه لمكافحة الارهاب , الا أنه سلط سيفا مسلولا على شباب غض لم يتعد سن المراهقة ولم يصل بعد مرحلة النضج والتمييز السياسي , وهو ماأعاد المشهد القضائي والأمني الى مربع التسعينات حين خرق النظام جدار الصوت على الساحة القطرية والاقليمية والدولية بأخبار المحاكمات اليومية غير العادلة ... النظام التونسي بلغ درجة متقدمة من العزلة الداخلية نخبويا وسياسيا وحتى شعبيا وبدأ حلفاؤه وأصدقاؤه في الغرب يدقون ناقوس الخطر تجاه سياساته الداخلية المغالية في التسلط والقمع , وهو ماتأكد تاريخيا منذ الاعلان عن تأسيس أول نواة لعمل وطني مشترك ومعارض حين احتضان السلطات التونسية للقمة العالمية لمجتمع المعلومات , وكمحاولة منه للخروج من حالة الحصار السياسي الداخلي والاقليمي وشبه الدولي في ظل ماتشهده المنطقة من تحولات اصلاحية قام بصناعة "قاعدته" المحلية عبر سلسلة من الأعمال القمعية والمحاكمات الجائرة ... "القاعدة" كتنظيم ارهابي أو "القاعدات" كشبكات منحرفة وعنفية خطيرة والتي قد تبرر عودة الاحتلال والتدخل العسكري والسياسي المباشر في شؤوننا الوطنية والمغاربية , أصبحت مفضلة لدى السلطات التونسية في ظل مانراه بأعيننا ونسمعه باذاننا على مشوار من الاصلاح الديمقراطي والليبرالي الذي يسمح للمعارضين بالمشاركة في لعبة مضبوطة لاقتسام منافع واكراهات الحكم ... نزوة الاحتفاظ بالسلطة وعدم الاشتراك فيها مع أحزاب وطنية وقوى سياسية مستقلة على شاكلة مانراه في المغرب الأقصى وموريتانيا والجزائر ودول شرق أوسطية كثيرة وبلدان أمريكا وأوربا , لايمكن أن تؤدي في نهاية المطاف الا الى صناعة مثل هذا الارهاب القبيح ثم القبيح ثم القبيح ... نظام يقول لنا بوضوح وبلسان الحال والواقع لو خيرتموني بين احزاب مدنية حداثية وسطية معتدلة وتجربة اصلاحية هادئة وبين صناعة القاعدة والارهاب مع تضييع أمن واستقلال البلاد لاخترت - النظام يقول طبعا وقصدا - انتاج القاعدة واستدرار عطف وتدفق الحماية الخارجية من أجل الاستمرار والبقاء ...! النظام يضعنا اليوم اذا لم يقع انقاذ البلاد والعباد من داخل السلطة نفسها وبتظافر الجهود مع كل الوطنيين في الجسم المعارض , يضعنا أمام لحظة تاريخية أشبه بلحظة الامضاء على معاهدة باردو للحماية والتي كانت سببا لاحقا في اخضاع البلاد الى مشوار من العذاب استمر حتى سنة 1956 , وهانحن اليوم نعود مجددا الى ظرف تاريخي شبيه أمام جشع بعض البايات الجدد الذين خيروا الخواجات على الاستجابة لتطلعات مشروعة لسليلي جيل علي بن غذاهم ... حفظ الله تونس وشعبها , حفظ الله تونس وشعبها , حفظ الله تونس وشعبها من شرور القاعدة وصناع الجور والقمع والارهاب . كتبه مرسل الكسيبي بتاريخ 8 مارس 2008 للتفاعل مع الكاتب : [email protected] المدونة