تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حياة رائد نهضة تونس كما يراها المؤلفون

اهتم عديد من الكتّاب والباحثين في الفترة الأخيرة بعلاقة الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة (وهو أول رئيس للجمهورية التونسية و يعتبر مؤسس الدولة الوطنية و تونس الحديثة) بعدة مسائل كالدين و الإعلام نظرا لمواقفه المثيرة للجدل.
بورقيبة و الإعلام
من بين الكتب التي طرحت علاقة الزعيم الحبيب بورقيبة بالإعلام نذكر كتاب الصحفي خالد الحداد الذي جاء بعنوان بورقيبة والإعلام:جدليّة السّلطة والدعاية .ويتضمّن الكتاب بحثا وثائقيّا وتاريخيّا وتحليليا لخطاب الرئيس الحبيب بورقيبة حول الإعلام، إلي جانب شهادات تاريخيّة مهمّة من خلال عدد من الأحاديث الّتي أجراها مؤلّف الكتاب مع عدد من الوزراء وكتاب الدولة للإعلام (مصطفي الفيلالي، محمّد الصيّاح، مصطفي المصمودي، الطاهر بلخوجة)، وعدد من الصحافيّين والإعلاميّين الذين عايشوا العهد البورقيبي (عبداللطيف الفوراتي، عبد الحميد بن مصطفي، صلاح الدّين الجورشي، وحيد براهم، بلحسن بن عرفة).
وقد اشتمل الكتاب الذي جاء في 344 صفحة علي خمسة أبواب حاول خلالها الكاتب ضبط أهمّ ملامح المشروع الاتصالي للرئيس بورقيبة منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلي حدود سنة 1987 :
الباب الأوّل/ بورقيبة والإعلام: منطلقات وأهداف
الباب الثاني/ علاقة بورقيبة بالإعلام : قراءة تاريخيّة
الباب الثالث/ الرئيس بورقيبة والإعلام: التمثّل والممارسة
الباب الرابع/ الإعلام البورقيبي في عيون مُعاصريه
الباب الخامس/ بورقيبة والإعلام: قراءة تأليفيّة
وعبر مختلف هذه الأبواب، حاول مؤلّف الكتاب تتبّع جملة المراحل والتطوّرات الّتي ميّزت تعاطي الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة مع المسألة الإعلاميّة منذ كان كاتبا صحفيّا ومديرا لجريدة لاكسيون وعلي علاقة وطيدة بمختلف الفاعلين في الحقل الإعلامي محلّيا وإقليميّا ودوليّا خلال الحقبة الاستعماريّة إلي حين تولّيه رئاسة الدولة التونسيّة المستقلّة، إذ وبقدر ما التجأ الزعيم بورقيبة إلي الإعلام لفضح السياسة الاستعماريّة وكشف مخطّطاتها للهيمنة واستغلال مقدرات الشعب التونسي، بقدر ما تملّكته نزعة أخري عند تولّيه الحكم فوجدت العديد من التناقضات خاصّة علي مستوي الممارسة.
ومع تحليله بصفة علميّة مدروسة للخطاب البورقيبي الّذي تناول الملف الإعلامي ومتابعته لجملة من المواقف والقرارات حيال نفس الموضوع، جمّع الكاتب العديد من المعطيات والحقائق ذات الصلة بالواقع الّذي مرّ علي المشهد الإعلامي الوطني طيلة الحكم البورقيبي وذلك من خلال الأحاديث المذكورة مع عدد من الفاعلين في المشهد الإعلامي من مسؤولين في الدولة وصحافيّين عاملين في مختلف الوسائل الإعلاميّة المكتوبة والمرئيّة والمسموعة ،المستقلّة منها والعموميّة والحزبيّة المعارضة والقريبة من الحزب الدستوري، وذلك في محاولة لفهم طبيعة التمثّلات الّتي كانت للرئيس بورقيبة حول الإعلام.
و للكتاب ميزة خصوصيّة، إذ لم يسبق الكتابة عن هذا الموضوع بهذه الرؤية الشاملة والمجمّعة، إذ تطرّق مؤلفون آخرون إلي الإعلام البورقيبي من خلال زاوية تاريخيّة توثيقيّة أو من خلال بوابّة سياسيّة صرفة في إطار قراءة معطيات حرب الخلافة والصراع بين الدولة البورقيبيّة ومعارضيها من مختلف المشارب والتوجّهات، وكان هذا الكتاب متفرّدا من خلال تخصيصه كامل الأبواب والفصول إلي المسألة الإعلاميّة وفق ضوابط علميّة ومنهجيّة أكّدت عليها مبادئ علوم الإعلام والاتصال، هذه العلوم الّتي ما تزال حديثة العهد وتسعي إلي التواجد الحقيقي ضمن المسارات المختلفة للعلوم الإنسانيّة الكونيّة.
بورقيبة و الدين من بين البحوث التي تناولت علاقة بورقيبة بالمسألة الدينية نذكر كتاب الشاعرة و الباحثة آمال موسي بورقيبة و المسألة الدينية الذي جاء ضمن سلسلة مقالات عن دار سراس التونسية للنشر. ويعالج الكتاب علاقة خطاب بورقيبة السياسي بالمسألة الدينية تحديدا، وكيفية تعامل الخطاب السياسي مع الدين نصا وعقيدة وسلوكا، أي علاقة الخطاب الرسمي مع الممارسة الاجتماعية للدين، في الفترة الممتدة من سنة الاستقلال 1956الي 1987تاريخ انتهاء مرحلة الحكم البورقيبي.
ولقد طرح الكتاب الإشكالية التالية : كيف تغيّر وتراوح الخطاب السياسي في تونس إزاء المسألة الدينية، بين علمانية الموقف والتوظيف السياسي والي أي حد طغي التوتر في علاقة السياسي بالديني؟؟
أما المتن المنتقي والمتضمن لثلاثة وعشرين خطابا مثلت المادة الرئيسية لتحليل المضمون، فقد اشتمل علي ثلاثة أنواع من الخطب وهي خطب بورقيبة بمناسبة المولد النبوي الشريف بجامع الزيتونة أو بغيره من المساجد، وخطب ألقيت في مناسبات سياسية أو في افتتاح بعض المؤتمرات، وأخري ألقاها بورقيبة في رحلاته إلي السعودية وتركيا وموريتانيا.
ولقد اتبعت الباحثة في اختيار المتن ثلاثة مقاييس أولها حدثي آني ومقياس ثان يتعلق بالجمهور الموجّه إليه الخطاب واتصل المقياس الثالث والأخير بالمجالات ذات العلاقة المباشرة أو غير المباشرة بالمشروع المجتمعي التحديثي. ووزعت قائمة الخطب علي مرحلتين: المرحلة الأولي من 1956 إلي منتصف السبعينيات، وهي مرحلة بناء الدولة الحديثة وتفكيك الهياكل التقليدية في المجتمع التونسي. والمرحلة الثانية تبدأ من منتصف السبعينيات إلي منتصف الثمانينيات، وهي الفترة التي حصل فيها فشل تجربة التعاضد وبداية ظهور المعارضة الإسلامية والليبيرالية.
وأشارت الكاتبة إلي أن طبيعة المشروع البورقيبي هو سياسي حاول من خلاله أن يغالب المشروع الفكري مما جعل الخطاب السياسي البورقيبي تطغي عليه ظاهرة التناقض واعتبرت ذلك إفرازا طبيعيا لما يسمي بالتوظيف السياسي لمسوغات دينية. ورأت في دعوة بورقيبة الشهيرة الناس في تونس للإفطار خلال شهر رمضان علامة بارزة لتوظيف الدين للسياسة حين قال بورقيبة إن ذلك بمثابة الجهاد الأكبر في معركة التقدم التي تخوضها البلاد.
وكان بورقيبة قد دعا في بداية فترة الثمانييات التونسيين إلي الإفطار حينما اشتد الحر في فصل الصيف في مسعي لحثهم علي مضاعفة الجهود في العمل ووصف ذلك بأنه جهاد في سبيل تقدم البلد.واستشهد بورقيبة آنذاك بان النبي محمد ÷ رسول العمل والجهاد وان الرسول أعطي الأولوية لشؤون الدولة عندما تكون في حاجة لمزيد القوة. وانتفض آنذاك عديد من التونسيين خصوصا في مدينة القيروان علي تلك الدعوة واعتبروها مخالفة لشريعتهم الإسلامية واتهموه بأنه عدو للإسلام. لكن آمال موسي أشارت في كتابها أيضا أنّ بورقيبة اخضع السياسي لما هو ديني أحيانا مثل إظهار اهتمامه بالدين الإسلامي وفتح الجامعة التونسية للطلاب للتفقه في الدين بدافع المراوغة والمناورة والتكتيك السياسي. حتي أنها عزت خطاب بورقيبة الإسلامي لظهور معارضة دينية قوية منذ بداية فترة السبعينيات.
وقالت في كتابها تأكدت حاجة خطاب بورقيبة السياسي إلي تكثيف استعمال شكل آخر من المزايداة الانتمائية وإظهار انبهاره بالقيم الإسلامية وإشادته بتفوق الدين الإسلامي علي بقية الأديان التوحيدية . ويوصف بورقيبة بأنه أب تونس الحديثة حيث كانت له الجرأة في إصدار أول مجلة للأحوال الشخصية في العالم العربي تقر منع تعدد الزوجات بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان استقلال تونس عن مستعمرتها السابقة فرنسا.
غير أن الكاتبة اعتبرت الخطاب السياسي عند بورقيبة لا ينطلق من مواقف دينية ثابتة بل إن الموقف من المسألة الدينية قابل للتحول وللانقلاب عليه إن حتمت النفعية ذلك.
وتستدل موسي في كتابها بشهادة لرئيس الوزراء الأسبق محمد المزالي الذي اعتبر أنّ بورقيبة حاول توظيف الدين الإسلامي في المساواة في الإرث بين الرجال والنساء لكنه لم يفلح. ونقلت موسي عن المزالي قوله أراد بورقيبة أن يسوي الإرث بين الرجل والمرأة فلم يجد أي آية قرآنية وأجابه رجال الدين بأن القران صريح في هذه المسالة .
ويضيف المزالي لقد قال لي بورقيبة عدة مرات بأن قضية المساواة في الإرث بقيت في القلب وأنه رغم محاولاته لم يجد آية قرآنية تمكنه من تحقيق حلمه . وخلصت الكاتبة إلي أنّ تعاطي بورقيبة مع الدين يتصف بالنفعية وبالأسلوب الانتقائي. واعتبرت أن مثل هذه الأوصاف تعني بأن شروط تحقق الدولة العلمانية التي تفصل بين السلطة الروحية والسلطة السياسية غير متوفرة.
و انتهت الباحثة بعد التحليل إلي الإقرار أنه من الصعب معرفيا الاطمئنان لفرضية علمانية الموقف البورقيبي لافتقادها لفلسفة مادية مطلقة. فالسائس، يتراوح بين ضرورة حشر الدين في المجال الشخصي وإقصائه عن المجال الاجتماعي، ثم سرعان ما يتناقض ويوظفه في الدعوة إلي بعض أفكاره وفي صراعه ضد شيوخ الزيتونة و ظهور الإسلام الراديكالي. هناك حنكة سياسية في استبطان عكس الظاهر والمنطوق به، والانصياع الظرفي لموقف مقيد بملابسات معينة.
ومن هذا المنطلق استنتجت آمال موسي أن تعاطي بورقيبة مع الدين يتصف بالنفعية والبراغماتية وبالأسلوب الانتقائي والواقعية. ومثل هذه الأوصاف تعني بأن شروط تحقق الدولة العلمانية التي تفصل بين السلطة الروحية والسلطة السياسية غير متوفرة.ولا تتجاوز علاقة الدولة بالدين حدود التوظيف ولا تحمل أية اعتبارات فكرية وسياسية.لذلك فان ظاهرة التناقض في الخطاب وجدلية التخفي والتجلي والتواصل والتمايز، كلها تندرج في إطار التكتيك السياسي وتلبي مصالح الدولة وتستجيب لمقتضيات التعبئة السياسة.
وخلص الكتاب إلي أنه بقدر ما يصح نسبيا علي تجربة بورقيبة وصفها بالتحديثية فإنه في المقابل يصعب وصفها بالعلمانية الكلية، وربما يعود ذلك إلي ضرورة تعتق شروط العلمانية مع الزمن والأجيال وتراكم الخبرات والممارسة.علما بأن التفكير بعيداعن أية خلفيات في تصور بورقيبة الخاص للدين الإسلامي قد يكون مهما معرفيا ومدخلا مغايرا لاكتشاف صورة المفكر الثوري الذي خذلته طبيعة مادة الخطاب السياسي، الذي ينتصر للواقعي والآني.
الحبيب بورقيبة :مؤسس تونس الحديثة
وُلِدَ بورقيبة سنة 1903 في عائلة متواضعة ماديًّا واجتماعيًّا في حي الطرابلسية بمدينة المنستير الساحلية، لم يكن للأسرة ما يميزها عن بقية الأسر التي تحاول أن ترتقيَ إلي الطبقة الوسطي بصعوبة ملحوظة، فوالده كان يعيش حياة الكفاف من معاشه ومن المقدار الزهيد الذي يتقاضاه من عمله كخبير فلاحي، وكان أمل الوالد أن يتمكن ابنه الصغير من الحصول علي شهادة التعليم الابتدائي مثل إخوته حتي يُعْفَي من الخدمة العسكرية التي كانت تُفْرَض علي كل تونسي لم يسعفه الحظ للحصول علي هذه الشهادة.
حرص الوالد علي إدخال الحبيب إلي فرع المدرسة الصادقية التي بناها المُصْلِح خير الدين التونسي بهدف تكوين كوادر تستجيب لحاجيات الإدارة الحديثة، هناك اجتهد الطفل حتي تمكن من الحصول علي شهادة البروفي في اللغة العربية، لكن إصابته بمرض السُّل جعلته ينقطع عن الدراسة لمدة سنتين تقريبًا وفي المستشفي اطلع علي كتاب تونس الشهيدة الذي ألَّفه الزعيم عبدالعزيز الثعالبي، ذلك الشيخ الزيتوني المُجَدِّد ومؤسس الحزب الدستوري الذي سيلتحق بورقيبة بصفوفه وقيادته فيما بعد.
بعد فترة النقاهة، تحدَّي الشاب - الذي بدت عليه علامات القيادة والطموح - أوضاع الفقر، وتَمَكَّن بفضل مساعدة أحد إخوته من مواصلة الدراسة بمعهد كارنو الفرنسي الذي تخرج منه ولا يزال آلاف المثقفين التونسيين ذوي التكوين اللغوي المتين في مادة الفرنسية، ولم تمض ثلاث سنوات فقط حتي برز في العلوم الرياضية والأدب والفلسفة، وهي المواد التي سيعتبرها فيما بعد أساس التربية الحَقَّة ومحور تهذيب العقل .
إن انتماءه الاجتماعي الفقير، والصعوبات التي مَرَّ بها خلال دراسته الأولي، جعلته لصيقًا بالشعب وهمومه، ومعاديًا للسياسة الاستعمارية، ومعجبًا بالثقافة الفرنسية إلي حد الافتتان. لم يدرس في جامع الزيتونة، لكنه تَعَلَّم عند أساتذة من شيوخ في الزيتونة، وعندما تحدَّث عنهم في بعض خطبه، قدمهم في صورة مهزوزة ومضحكة تَنُمُّ عن استخفاف واحتقار لهم مقابل النموذج الآخر ممثلاً في الأساتذة الفرنسيين،
سافر بورقيبة إلي باريس حيث زاول التعليم العالي بكلية الحقوق وبمعهد الدراسات السياسية فحصل علي الإجازة في الحقوق سنة 1927 والشهادة العليا من معهد الدراسات السياسية.
ولدي عودته إلي تونس مارس مهنة المحاماة. وبالتوازي مع نشاطه شارك في كتابة عدد من الفصول في الصحافة الوطنية التي كانت تصدر آنذاك مثل صوت التونسي و اللواء التونسي .وفي أول نوفمبر 1932 أصدر جريدة لاكسيون تونيزيان مع جمع من رفاقه وكان مديرا لها.
وعلي إثر انعقاد مؤتمر الحزب الحر الدستوري في 12 ماي 1933 أصبح عضوا في اللجنة التنفيذية للحزب لكنه استقال منها يوم 9 سبتمبر 1933 بعد أن وجّهت إليه لوما شديدا بسبب مشاركته في وفد أعيان المنستير الذي ذهب إلي قصر الباي للاحتجاج علي موقف عامل المنستير الذي رخّص في دفن ابن أحد المتجنسين بمقبرة المسلمين في هذه المدينة.
وسعي بعد ذلك إلي شرح سبب استقالته من اللجنة التنفيذية إلي أن استقرّ الرأي علي عقد مؤتمر استثنائي بقصر هلال يوم 2 مارس1934 تمخّض عن حلّ اللجنة التنفيذية وتكوين ديوان سياسي يضم كلا من الدكتور محمود الماطري رئيسا والحبيب بورقيبة كاتبا عاما والطاهر صفر والبحري قيقة وامحمد بورقيبة أعضاء.
وفي أواسط الثلاثينيات وبعد تسمية بيروطون مقيما عاما بتونس تصاعد الاضطهاد الاستعماري في البلاد فتمّ إبعاد الوطنيين إلي الجنوب التونسي ونفي الزعيم الحبيب بورقيبة وبعض رفاقه إلي قبلّي ثم إلي برج لبوف .
وتواصلت المقاومة الوطنية بأشكال مختلفة إلي أن تمّ الإفراج عن الزعماء المبعدين بعد صعود الجبهة الشعبية إلي السلطة بفرنسا (3 ماي 1936) برئاسة ليون بلوم ، وعادوا إلي النضال وتحرّك الديوان السياسي من أجل تحقيق المطالب الوطنية إذ أن الحكومة الفرنسية لم تف بوعودها، واحتدت الأوضاع خصوصا علي إثر مؤتمر نهج التريبونال في أواخر سنة 1937 الذي أعلن عن سحب الثقة من الحكومة الفرنسية بسبب توجهاتها المناقضة لوعودها.
ودخلت الحركة الوطنية في أحداث دامية بلغت ذروتها يوم 9 أفريل 1938، وإثرها تمّ اعتقال الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه فقضي مدة في السجن المدني وكذلك العسكري حيث أجري معه تحقيق مطوّل في قضية التآمر علي أمن الدولة، وتمّ نقله إلي سجن تبرسق ثم إلي السجون الفرنسية.
وكان لدعوته إلي الوقوف إلي جانب الحلفاء ضدّ قوات المحور في 8 أوت 1942 أثر في استرجاعه حريته في أفريل 1944.وفي مارس 1945 قرّر الزعيم الحبيب بورقيبة الهجرة إلي القاهرة حيث يوجد مقر جامعة الدول العربية قصد التعريف بالقضية الوطنية التونسية. وساهم مع عبد الكريم الخطابي في تأسيس مكتب المغرب العربي بالعاصمة المصرية ومنها سافر إلي نيويورك في ديسمبر 1946 للتعريف بالقضية التونسية في الأمم المتحدة.
وشعورا منه بأهمية الكفاح التحريري من الداخل عاد إلي تونس في سبتمبر 1949 قبل أن يسافر إلي فرنسا لكسب أنصار داخل اليسار الفرنسي ولزيادة التعريف بالحركة الوطنية، وأعلن عن برنامج السبع نقاط، وكان مهتما بالتجربة الأولي في التفاوض فساند مشاركة الزعيم صالح بن يوسف في حكومة شنيق التفاوضية، ولكن النتيجة لم تكن كما يرتضيه الوطنيون فكانت مذكرة 15 ديسمبر 1951 التي تفرض السيادة المزدوجة علي التونسيين، فرفضها الزعيم الحبيب بورقيبة علنا، وكانت من بين الأسباب في اندلاع الثورة المسلحة يوم 18 جانفي 1952 وهو التاريخ الذي انعقد فيه سرا المؤتمر الاستثنائي للحزب، الذي منعه المقيم العام جون دي هوتكلوك، وأعلن عن المطالبة بالاستقلال.
وقد تمّ إبعاد الزعيم الحبيب بورقيبة إلي طبرقة ثم إلي جالطة حيث بقي عامين وكان يواصل من منفاه الاتصال بالوطنيين ويحثهم علي الصمود والاستمرار في الكفاح.وبعد رفض إصلاحات بيار فوازار في 4 مارس 1954 تمّ نقله إلي جزيرة قروا وإلي أماكن قريبة من باريس حيث كان يتابع تطوّر القضية التونسية. وفي 18 يونيو 1954 أسند الحكم في فرنسا إلي بيار منداس فرانس، وكان خطابه بقرطاج يوم 31 يوليو 1954 الذي أعلن فيه اعتراف حكومة باريس باستقلال تونس الداخلي، وتشكّلت وزارة التفاوض بمشاركة ثلاثة أعضاء من الحزب الدستوري الجديد وأمضيت وثيقة الاستقلال الداخلي في 3 يونيو 1955.
لكن خلافا كبيرا جدّ بين الزعيم الحبيب بورقيبة وبين الكاتب العام للحزب الزعيم صالح بن يوسف الذي كان يعتبر اتفاقيات الحكم الذاتي خطوة إلي الوراء، واحتدّ هذا الخلاف متسببا في تقسيم صفوف المناضلين وزعزعة الوحدة الوطنية، وتمّ حسمه في مؤتمر الحزب بصفاقس في 15 أكتوبر 1955 لفائدة بورقيبة. ولم تلبث الظروف التاريخية أن ساعدت التونسيين علي المطالبة بالاستقلال التام، ودخلت الحكومة التونسية في مفاوضات آلت بسرعة إلي توقيع بروتوكول 20 مارس 1956.
وتمّ انتخاب المجلس القومي التأسيسي يوم 8 أبريل 1956، وكان الزعيم الحبيب بورقيبة أول رئيس له. ثمّ كلّف بتشكيل أوّل حكومة وطنية يوم 14 أبريل 1956. وفي 25 يوليو 1957 تمّ الإعلان عن النظام الجمهوري وتكليف الحبيب بورقيبة برئاسة الجمهورية.
وواصل منذ ذلك التاريخ تخليص البلاد من رواسب الاستعمار.وأقرّ مؤتمر بنزرت تعايش القطاعات الثلاثة العام والخاص و التعاضدي، لكن فترة التعاضد كادت أن تقضي علي اقتصاد البلاد، فما كان منه إلا أن غيّر الاتجاه الاقتصادي بداية من أكتوبر 1969.
وبناء علي ذلك انعقد مؤتمر المنستير للحزب الاشتراكي الدستوري في 11 أكتوبر 1971 لكن المنحي الذي توخاه لم يكن ليرضيه. فانعقد مؤتمر ثان في المنستير أيضا يوم 12 سبتمبر 1974 أقرّ تنقيح الدستور لإسناد الرئاسة مدي الحياة إلي الزعيم الحبيب بورقيبة.
ولئن عرفت البلاد التونسية خلال السبعينيات انتعاشة اقتصادية تعزي إلي انتهاج سياسة التحرر الاقتصادي التي أرساها المرحوم الهادي نويرة، فإن تونس لم تكن مع ذلك بمنأي عن الهزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تفاقمت في أواسط الثمانينات علي وجه الخصوص. وممّا زاد الأمر تعقيدا تقدّم الزعيم الحبيب بورقيبة في السن واستفحال مرضه وعجزه عن تسيير دواليب الدولة، مما غذّي أطماع المتكالبين علي السلطة من حوله. فدخلت البلاد في أزمة سياسية واجتماعية خانقة زادها تدهور الحالة الاقتصادية خطورة.
في المقابل،يري المؤرخون أنّ بورقيبة تجاوز الخطوط الحمراء عندما أمر التونسيين بعدم صيام شهر رمضان بحجة أن التنمية الاقتصادية هي بمثابة الجهاد الأكبر ، وبما أنه ولي أمرهم أفطر أمامهم في حركة استعراضية، لقد أحدث ذلك رَجَّة قوية في تونس وفي العالم الإسلامي، مما أفقده ثقة قطاعات واسعة من التونسيين، وجلب عليه تهمة الكفر والمروق من الدين.
كان بورقيبة شديد الإعجاب بأتاتورك، غير أنه أخذ عليه أنه صرّح في الدستور التركي بالعلمانية، ورأي أنّ الأصوب أن يعلن الحاكم الإسلام في الدستور، ويلجأ في الواقع إلي تطبيق المنهج العلماني حتي لا يتهم بمعاداة الدين ولا تنشأ حياة دينية بعيدة عن الدولة.
أصدر عام 1956 قانونًا يقضي بتحريم تعدد الزوجات، وقانونًا ثانيًا يحرم زواج الرجل من مطلقته التي طلّقها ثلاثًا بعد طلاقها من زوج غيره، وثالثًا يبيح التبني الذي حرَّمه القرآن، ثم ألغي المحاكم الشرعية، وأغلق الديوان الشرعي، ووحّد القضاء التونسي وفق القوانين الفرنسية.
يقول المؤرخون إنه في مقابل هذه المواقف العدائية برزت تونس كدولة حداثية، لفتت أنظار العالم بما تمتعت به نساؤها من حريات استثنائية في العالم الإسلامي، كما راهن بورقيبة علي التعليم، حيث أصبحت وزارة التربية تتمتع بأضخم ميزانية مقارنة ببقية الوزارات، هذا الرهان جعل تونس تمتلك منذ وقت مبكر نخبة فنية متخصصة جيدة، كما وضع بورقيبة ثِقَلَه لإنجاح خطة تنظيم الأسرة والنسل، ورغم الجدل والمقاومة السلبية، إلا أن ذلك مَكَّن الدولة من التحكم في النمو الديموغرافي.
من جهة أخري اعتمد بورقيبة كثيرًا علي تدعيم الطبقة الوسطي من خلال وضع سياسة اجتماعية فعالة وشعبية خاصة في مجالات الأجور والصحة والخدمات والتعليم المجاني.
أما علي صعيد السياسة الخارجية، فقد تحالف بورقيبة مع الغرب دون أن يدخل في نزاع مع الاتحاد السوفييتي، وبني علاقات جيدة مع الأنظمة الملكية والخليجية رغم الحملة الشرسة التي قادها ضد النظام الملكي في تونس ورموزه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.