هل التسوية قدر لا مفر منه في المنطقة العربية؟ يعرف الكاتب والصحافي المصري الراحل محمد سيد أحمد في كتابه «بعد أن تسكت المدافع» حول التسوية بين العرب والكيان الصهيوني بأنها: «تعني عقد اتفاقات صريحة أو ضمنية، تنشئ التزامات متبادلة بين أطراف النزاع، معززة بضمانات متكافئة، من أجل استبعاد ممارسة التناقض بأسلوب الحرب، أو بأسلوب آخر، يلحق ضرراً بجميع الأطراف، يفوق ما قد يحمله من مزايا لأي طرف». ورغم أن الصراع العربي- الصهيوني لا يمثل استثناء عن بعض الصراعات المستعصية في العالم، إلا أن شروط تسويته لم تتوافر، بعد، وليس من المتوقع أن تتوفر في المستقبل القريب أو المنظور. ولم يمر عام واحد منذ قيام الكيان الصهيوني عام 1948 إلا وازداد قوة على الصعيد العسكري، وكان ذلك ناتجا عن عاملين: أولهما: تنمية قواه العسكرية، وامتلاك كل ما يحتاج من التكنولوجيا الحديثة التي أفرزتها الثورة العلمية والتكنولوجية، ومن الأسلحة الأميركية المتطورة. وثانيهما: ازدياد الانقسام والتفكك في النظام الرسمي العربي اللاهث وراء أي تسوية مذلة للصراع العربي- الصهيوني، وانحياز معظم دوله للمخطط الأميركي، وعجز ما يسمى بمحور الممانعة عن إعداد قواه للمواجهة، وتنمية الوضع العربي لضمان مواجهة جادة ومسؤولة وشاملة مع إسرائيل. لا نضيف شيئا جديدا، إذا قلنا إن العدو الصهيوني كسب كل حروبه ضد العرب، منذ سنة 1947، وحتى الآن. ولقد نفذ مخططاته خطوة خطوة، فأقام الدولة سنة 1948، عقب هزيمة سبعة جيوش عربية. وواصلت إسرائيل عدوانها الثلاثي ضد مصر عام 1956، ولم تعد إلى حدود فلسطين الدولية إلا بضغط أميركي. واستطاعت إسرائيل أن تهزم ثلاثة جيوش عربية (مصر وسوريا والأردن) في عام 1967. وأن تحتل كل فلسطين وسيناء والجولان. أما في حرب 1973، فقد واجهت إسرائيل جيشين عربيين. وشكلت تلك الحرب التي شنتها كل من مصر وسوريا يقظة لا تزال تشكل نموذجا في المخيلة العربية، وإن كانت هذه الحرب أرادها الرئيس الراحل السادات أن تكون تحريكية لخطوط وقف إطلاق النار العائدة لعام 1967، للدخول في مفاوضات حول التسوية للصراع العربي- الصهيوني، انطلاقا من شروط أفضل. وقد نجم عن هذه الحرب، توقيع اتفاق لفصل القوات بين سورية وإسرائيل في 31 مايو 1974، حيث سكتت المدافع على جبهة الجولان منذ ذلك الوقت وليومنا هذا، ثم توقيع اتفاقيات كامب دافيد بين مصر وإسرائيل عام 1979، التي أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي- الصهيوني. وفي حرب الاجتياح الصهيوني للبنان في يونيو عام 1982، احتل الجيش الصهيوني أجزاء أساسية من لبنان، ولم يواجه سوى قوى منظمة التحرير الفلسطينية. ولم تكن القوة العربية، سيان المرابط منها على الحدود، أو المنتشر في أرجاء الوطن العربي، قادرة على مواجهة، تسمح بهزيمة العدو، نتيجة ظروف مختلفة. وفي حرب 2006 واجهت إسرائيل حركة المقاومة الإسلامية ممثلة بحزب الله، الذي كان يمتلك جبهة داخلية متماسكة، ويستند إلى محور إقليمي متكون من سورية و إيران كان مندفعا لمحاربة المشروع الأميركي في المنطقة، وكان يزود المقاومة الإسلامية في لبنان بشكل دائم ومستمر بالسلاح والصواريخ والذخيرة و المعلومات الاستخبارتية. و هو ما شكل أرضية صلبة لصمود حزب الله في وجه آلة الحرب الصهيونية. أما إسرائيل التي أصيب جيشها بخيبة أمل كبيرة، فإنها مع ذلك نجحت في إقفال جبهة جنوب لبنان عن طريق التزام الحكومة اللبنانية وحزب الله باحترام وتطبيق القرار 1701. أما على الصعيد الفلسطيني، فعلينا الاعتراف، بأن إسرائيل نجحت في القضاء على الانتفاضة الثانية من خلال تدمير مخيم جنين في مارس 2002، وبناء شارون جدار الفصل العنصري، الذي أخرج عمليا جبهة الضفة الغربية من الصراع. وهاهي إسرائيل اليوم تخوض الحرب التدميرية والإبادية المجنونة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، حيث تخوض حركة «حماس» ثلاث حروب في آن معا، وتتداخل فيما بينها، حرب ضد إسرائيل، وهي حرب مقاومة مشروعة ضد قوة احتلال. وحرب ضد السلطة الفلسطينية تعبر عن حالة الانقسام العميق في المشهد السياسي والعسكري الفلسطيني. وحرب ثالثة هي جزء من حرب المحاور الإقليمية، بين محور الاعتدال العربي الذي تقوده مصر والمملكة العربية السعودية، ومحور الممانعة الإقليمي الذي تقوده إيران، ويضم سورية و«حزب الله»، ولا يزال يرفض وقف إطلاق النار على أساس المبادرة المصرية والقرار 1860. وإذا ما توصلت الأطراف المتصارعة إلى صيغة لوقف النار خلال الأيام القليلة المقبلة، فإن الحرب المشتعلة في غزة ستتوقف، وبالتالي ستقفل آخر جبهة قتال في الصراع العربي – الصهيوني، في انتظار بروز مشروع عربي نهضوي تحرري جديد. توفيق المديني – كاتب تونسي