وزارة التجارة تنفذ حملة ضد أجهزة التكييف المتاتية من السوق الموازية    إلغاء المواجهات الودية بين المنتخب الوطني ونظيره الجزائري    النجم الساحلي: ثلاثي جديد على ذمة لسعد الدريدي في مواجهة النادي الإفريقي    تونس لم تسجّل إصابات بفيروس "شيكونغونيا" وتواصل مراقبة البعوض الناقل    ملف عمال الحضائر والقرية الحرفية: هذا ما وعد به رئيس الدولة..#خبر_عاجل    بنزرت: حجز عدد هام من التجهيزات الكهرومنزلية غير المطابقة للمواصفات    السودان: الكوليرا تقتل 40 شخص في أسبوع    بلاغ هام للطلبة..#خبر_عاجل    الشركة العقارية للبلاد التونسية: الشروع في بيع 45 شقة ضمن آلية "الفوبرولوس"    ال Var غايب والحكام التوانسة في الميدان    هام/ كميات الأمطار المسجلة خلال 24 ساعة الماضية..    عاجل : تفاصيل الإعلان عن مواعيد النتائج النهائية لمترشحي مراحل التكوين الهندسي لدورة 2025    صفاقس: شنوة باش يصير لبدر خوذي بعد ما أنقذ 3 صغار من الحريق؟    القيروان تحتضن الدورة الثامنة للمهرجان المغاربي ''للكسكسي''    الحماية المدنية: 488 تدخلا منها 108 لإطفاء حرائق خلال ال 24 ساعة الماضية    المروحة في الشهيلي تنجم تضرّك في الحالة هذه    نبيهة كراولي تختتم مهرجان الحمامات الدولي: صوت المرأة وفلسطين يصدح في سهرة استثنائية    "سوسيوس كليبيست" يواصل بيع تذاكر الكلاسيكو .. والمستشهر الأمريكي على الخط    فتح بحث تحقيقي في شبهات فساد بملفّ الطاقات المتجدّدة    واشنطن تلغي تأشيرات مسؤولين برازيليين    مهرجان قرطاج الدولي 2025: صوفية صادق تغني في عيد المرأة ... بين وفاء الذاكرة وتحديات الحاضر    عاجل: الفنانة الكويتية حياة الفهد تصاب بجلطة وحالتها حرجة    رئيس الجمهورية يزور معتمدية سجنان بمناسبة الاحتفال بعيد المراة    عاجل/ صفقة شاملة لغزة.. تفاصيل المفاوضات في القاهرة..    جريمة قتل مروعة: ينهي حياة زوجته بمساعدة شقيقته..!    "فايننشال تايمز": توتر متصاعد بين ترامب وزيلينسكي عشية قمة ألاسكا    الخطوط السورية تعود إلى الأجواء الليبية بعد سنوات...التفاصيل    حرائق الغابات تجتاح أوروبا    باريس سان جيرمان يحرز كأس السوبر الأوروبية بفوزه على توتنهام بركلات الترجيح    عاجل : فلكيا...موعد عطلة المولد النبوي الشريف 2025 للقطاعين العام و الخاص    البورصة ومنحة الإدماج: كيفاش تحضّر دوسيك باش يتقبّل من أول مرة    عاجل -نابل : وفاة الشاف محمد خليفي صاحب مطعم Oui Chef    مجدي الكرباعي: وفاة قاصر في سجن الأحداث بايطاليا    فظيع في القصرين :يقتل والده ويدفنه في المنزل !!    حريق بمصنع في هذه المنطقة الصناعية..#خبر_عاجل    حصيلة التشريعات في منتصف عهدة البرلمان: اتفاقيات مالية، إلغاء المناولة وتنظيم المجالس    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    مهرجان العنب بقرمبالية.. احتفال بالحصاد والتراث    قرطاج بين إبهار الحفلات وطمس الملامح التاريخية...مسرح أثري ... أم قاعة أفراح؟    رئاسة الجمهورية تكشف فوى زيارة سعيد لمعتمدية سجنان..#خبر_عاجل    الاطاحة بعصابة مختصة في التنقيب عن الآثار..وهذه التفاصيل…    تجمع بين حفتر والدبيبة: خطّة «بولس» لأمركة ليبيا    بطولة أمم إفريقيا للمحليين: فوز موريتانيا ومدغشقر على بوركينا فاسو وافريقيا الوسطى    رئيس الجمهورية في زيارة غير معلنة إلى سجنان: التفاصيل    سرّ غير متوقع لتقوية العلاقة الزوجية    تاريخ الخيانات السياسية (45): مقتل صاحب الشامة القرمطي    دواؤك في مطبخك...الثوم يتفوق على المضادات الحيوية...    وزير الإقتصاد في إفتتاح اليوم الوطني لتونس في التظاهرة الكونية " اوساكا اكسبو 2025"    تفشي عدوى بكتيرية بفرنسا ...تفاصيل    مناظرة انتداب 100 ملازم بسلك الديوانة: آخر أجل 22 أوت 2025    الكاف: حجز كميات من السجائر المحلية والمجهولة المصدر    المنتخب التونسي لكرة القدام أكابر ب يلاقي المنتخب المصري الأول وديا يومي 6 و9 سبتمبر القادم بمصر    عاجل : اليوم التوانسة يدخلوا بلاش للمتاحف و المواقع الأثرية    وزارة الصحة تعمم منصة Njda.tn لتسريع التدخلات الطبية وإنقاذ الأرواح    طقس اليوم: أمطار مُنتظرة ببعض الجهات بعد الظهر والحرارة تصل إلى 39درجة    دعوة الى تلازم الذكاء الاصطناعي مع مقاصد الدين    هام/ عطلة بيوم بمناسبة المولد النبوي الشريف..    يهم التسجيل المدرسي عن بعد/ البريد التونسي يعلن..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ورقات من ماض لم ينته بعد - الحلقة الرابعة

"كان راشد الغنُّوشي, خلال البرنامج التلفزيوني, يصرُ, وبإلحاح لم تعد ترجى منه فائدة, على عدم عنفيَة حركته... بل وعلى تهافت العنف كمنهج لمقاومة أنظمة الحكم المستبدَة, وبأن العنف فيه إضرار كبير بالإسلام وبالمسلمين, والدليل على صدق المقولة ما حدث للإسلام وللمسلمين بعد الحادي عشر من سبتمبر –وكأن الأمر مفاجأة غير منتظرة! وألتقف أحد العلمانيان الكرة ليستغلها دعما لموقفه, المتهافت أصلا, فضرب من راشد الغنُّوشي مثلا لإمكانية تواجد إسلاميين غير ذوي عنف. وهكذا نجد أنفسنا من جديد أمام مقولة un bon islamiste, est un islamiste mort الإسلامي المتقَبَل, هو الإسلامي المقبور-بالموت أو بالسجن أو بالصمت, وهو أضعف الإيمان...
إنَها مأساة الحركات الإصلاحية في عالمنا العربي الإسلامي, أو بالأحرى من توهم نفسها والناس بأنها حركات إصلاحية. إنّها –والتاريخ والواقع يشهدان- لم تصلح شيئا... واشتعلت رؤوس قياداتها شيبا, ولم تصلح شيئا... بل إنَها أفسدت ما كان مأمول إصلاحه, وأخرت إلى ما لانهاية تباشير الخلاص.
بعضهم, وحتى " يجنب بلادنا العزيزة الهزَات", ذهب إلى أبعد من ذلك. فتقرب وتزلف وركع وسجد وأنبطح عند أقدام الأمير, لتنفرج أسارير هذا الأخير عن ابتسامة ساخرة شامتة, تختزل قرونا من الاحتقار لما آل إليه هؤلاء المعارضون باسم الماركسية اللّينينيَّة, وباسم التروتسكية, وباسم الماوية, وباسم الحداثة الليبرالية, وباسم النهضة العربية, من هوان. فصاروا يبحثون لهم تحت الموائد, على بعض الفُتات. وباتوا, في سبيل ذلك, على استعداد تام إلى مباركة كل السياسات, وكل المعتقلات, وحتى خلع السروال, إن كان في ذلك مرضاة للأمير... ولتذهب البروليتاريا والجماهير الشعبية إلى الجحيم... لقد يئسوا من الشعب الذي لم يعطهم حق قدرهم ولم يفقه ما كانوا يقولون. فالشعب غبي... و "وعيه بقري"...
ما العمل؟
"تحدث الشيخ راشد عن الجهاد وأهميَته, وأنَ الجهاد لا يعني القتال, فضلا عن أنه يعني القتل الإجرامي للأبرياء العزل, كما حدث في 11 سبتمبر؛ وأضاف بأن الجهاد كأداة معارضة أمر مشروع ومطلوب – أفضل الجهاد عند الله, كلمة حق عند سلطان جائر. كل هذا معلوم من الدين بالضرورة, ولا أحد يعتقد بأن الجهاد يعني القتال, بما في ذلك الحركات التي تسمت باسمه. وأنا لا أجد هذا الخلط إلا في خطاب حفنة الإعلاميين و "الفلاسفة الجدد" المعتمدين لدى الإعلام الغربي. وخلطهم هذا, نابع أصلا من حقدهم أو جهلهم, أو كليهما معا بالإسلام.
لقد ضيَق, فيما أرى, الشيخ راشد الغنوشي واسعا حينما حصر الجهاد القتالي في حالة واحدة, وهي مقاومة عدو خارجي محتل؛ وضرب مثلا, العراق وفلسطين وربما الشيشان, لا أذكر. قد تتهمني بالطوباوية وهذا شأنك. ولكن لنتساءل معا وبكل نزاهة : ما العمل حينما تنعدم إمكانية قول كلمة حق عند سلطان جائر؟ بل حينما تنعدم حتى إمكانية التفكير في أن السلطان جائر أصلا؟ ما العمل حين يزيح ضابط مظلم من أمثال بينوشيه رئيسا شرعيا منتخبا ويزج بعشرات الآلاف من أبناء الشعب في المعتقلات للتعذيب والتقتيل؟ ما العمل حين يتسلط اثنان وعشرون حاكما على رقاب شعوبهم, بدون هوادة, ولعشرات السنين : تونس, رئيسان لخمسين سنة على الأقل ؛ ليبيا, قائد واحد منذ أربعين عام ؛ مصر ثلاثة رؤساء لخمسين سنة على الأقل ؛ الأردن ملكان لنصف قرن ؛ وكذلك المغرب وسوريا والعراق واليمن والسعودية والكويت و عمان... الخ؟ ما العمل حين يكفر هؤلاء بمبدأ تداول السلطة, فيرثها الأبناء عن الآباء, ممالك كانت أم جمهوريات؟ ما العمل حين تكون نسبة المؤيدين لهؤلاء الحكام ثابتة لا تتغير عبر السنين والأجيال 99 وكسور %؟ ما العمل حينما تلغي عصابة من الجنرالات الذين لم يعرفوا إلا ساحة واحدة للمعارك : إدارة الأعمال المشبوهة و قمع الشعب... حينما تلغي هذه العصابة عملية الانتخابات التشريعية بين دورتين, باسم حماية الديمقراطية؟ ما العمل حين تزج نفس العصابة بعشرات الآلاف, ممن لا ذنب لهم إلا فوزهم في الانتخابات, بالسجون والمحتشدات الصحراوية؟ ما العمل حين يمنع الشباب من التظاهر احتجاجا على حرب ستشن على بلد عربي... ويتظاهر مئات الألوف وبكل حرية في باريس ولندن و... واشنطن؟ ما العمل حين يصبح مجرد تقديم العون إلى زوجة وأطفال جار أو قريب سجين, بمثابة جريمة "انتماء إلى جمعية غير معترف بها, وتمويل حركة سرية وإرهابية", تدخل بموجبه, أنت الآخر السجن, بعد مرور لازم عبر مؤسسة الخوف –لماذا تصرفت برجولة؟ سنفقدك إياها الآن, تأكد! ما العمل حين يصبح مجرد حديث عن الأدب, أو التاريخ أو الدين أو السياسة... أو حتى الرياضة! مغامرة خطيرة تجبرك على الحيطة حتى من الجدران؟ ما العمل حين " يتأخر مجرد مكتوب من أمي في أروقة الدولة شهرين قمريان "؟
ما العمل آنذاك؟
هل ننتظر قدوم عدو خارجي لغزونا حتى نفكر في مشروعية الجهاد؟
لا والله, سيغدو قدوم العدو الخارجي الغازي حينذاك, أمرا مأمولا... نحلم بحدوثه... سيصبح العدو الخارجي الغازي, منقذا, محررا, بيده الخلاص".
***
أداة الجريمة... الكُتب
قلت لصاحبي بعد أن تأكّدت من أنّه استردّ أنفاسه:
- لم تروي لي ما حدث لمكتبتك!
- سأروي لك ذلك الآن:
"تدافعت الإشاعات يومها, كسيل جرار لا يعبأ بحاجز, في أجواء ربيع وصيف 1978 الساخنة جدا... والمشحونة بالقمع, والاعتقالات, والمداهمات الليلية - وغير الليلية- لبيوت من تشتم عليهم رائحة الانتماء, من قريب أو من بعيد, إلى التيار الإسلامي. وبات مجرد شك, أو وشاية من جار حاقد, أو من زوجة في خلاف حاد مع زوجها, أو تقرير متزلف من إحدى "لجان اليقظة" - المنتشرة في أزقة وبطاح البلاد كانتشار القطط والكلاب الضالة - قد يلقي بصاحبه في غياهب سجون, الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود -مشوَه.
وقذف الرعب في أفئدة الناس, وبلغت قلوبهم الحناجر؛ فأفرزوا نوعا من الهستيريا الجماعية: الكل فيها يخشى الكل. في هذا الخضم لم تنجو عائلتي من الأجواء السائدة... فلقد انبرى لها من جديد شبح الماضي القريب, وصرت من حيث لا أشعر حاضرا بينهم رغم البحار والسهوب والحدود الفاصلة بيننا... فكان أن قررت والدتي, حماية لي وللعائلة التخلص, بشكل أو بآخر, من "أداة الجريمة" – الكتب. فجمعت, مستعينة في ذلك بإخوتي الأصغر مني سنا, ما كان ينمّ من قريب أو من بعيد عن توجهاتي الفكرية والسياسية من الكتب, ووزعتها على من قبل, وإن على مضض, من الجيران و الأقارب الذين لم تتخلل ماضيهم شوائب السياسة. بعضهم رفض وأمسك عن زيارة عائلتي لعدة أشهر. ثم عادت الكتب "المشؤومة" من جديد إلى بيتنا, بعد أن تحولت إلى عبء ثقيل ومحرج... "أنمسكه على هون أم ندسه في التراب..." ما عدى حقيبة واحدة سافرت مع أحد زملاء الجامعة القدامى إلى بعض بوادي البلاد, لا أعرف اليوم مصيرها, و تطوعت خالة لي تقيم بالخارج, ولها منزل في إحدى ضواحي العاصمة, لا تقطنه إلا في الصيف, أثناء عطلتها السنوية, بأن تنقل الكتب عندها, فيكون الجميع بذلك في مأمن.
ولكن ما أن وصلت إلى منزلها حتى تبلورت في ذهنها البسيط, فكرة عبقرية لا يمكن أن تنبع إلا من عقل أمرأة أمية, تركت البلاد منذ عقدين على الأقل, ولم تك لها علاقة بالكتب وعالمها, سواء قبل هجرتها أم بعدها. كان بحديقتها برميل ضخم لا يصلح لشيء, وفجأة وجدت له وظيفة, أخرجته بها من عالم النفايات لتلقي به في عمق التاريخ. جمعت خالتي في هذا البرميل بعض الأغصان الميتة, وخرق بالية, وجرائد ولدت ميتة, وسكبت عليها قليلا من البترول. وما أن علت ألسنة النار حتى أخذت تلقي الكتاب تلو الآخر, وكلما خف اللهيب, سكبت من جديد بعض البترول, وهكذا إلى آخر مجلد... التهمت النيران كل كتبي, لم تفرق بين شعر وتاريخ, بين أدب وسياسة, بين دين وفلسفة... كانت تلتهم الكتب بنهم ولسان حالها يقول: " هل من مزيد..."؟
حين رجعت خالتي إلى بيتنا, كان وجهها مسودّا وعينيها غائرتان :
- c'est fini ! لقد أرحتكم من مشكلة!
بكت أمي, ولم أفاتح في الأمر إلا بعد سنة, عندما زرت تونس في صائفة 1988.
في الأثناء حدث ما حدث من "انقلاب أبيض", ومن "ثورة ياسمين", ومن "تغيير مبارك", ومن "عهد جديد"... ما فتىء يتجدد...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.