عندما نقح الدستور قبل أشهر من أجل منع الأستاذ أحمد نجيب الشابي من الترشح للاستحقاق الرئاسي , لم تتجاوز اللعبة انذاك خط التحايل على أعلى مرجعية قانونية من أجل اضعاف سباق رئاسي انتظره الجميع بكثير من التشوف بعد أن استطاع هذا الأخير لفت الأنظار الى قدرات سياسية ذكية تجاوزت مستويات التنافس السياسي التقليدي ... أقصي الشابي كأقوى مرشح معارض , وأسدل الستار مسبقا قبل حوالي سنتين على نتائج الانتخابات الرئاسية , اذ باتت نتائج الانتخابات محسومة لفائدة الرئيس بن علي أمام ضعف الصورة التنافسية للمشهد الانتخابي ... لم يكن الأستاذ الشابي أول من يقع اقصاؤه بطريقة غير دستورية وان أخذ الاقصاء اتجاها دستوريا من حيث الشكل , اذ أن روح الدساتير عالميا جاءت لتكرس حق المواطنة الكاملة انتخابا وترشحا ومشاركة في المجالس التمثيلية أو في المناصب العليا للدولة .., غير أن اتجاه البوصلة تونسيا ورسميا كان كالعادة معاكسا للتاريخ ..., حيث أفرغ النص الدستوري من قدسيته ليتحول التنقيح صيغة من صيغ تطويع القانون وفق مصالح الطبقة الحاكمة في بعد تام عن الروح العامة التي توجه الوثائق الدستورية على مستوى العالم ... ماذا يعني أن تختار السلطة منافسيها في الاستحقاقات الانتخابية ؟ ... الجواب سوف لن يكون غير غياب الثقة في النفس وفي الناخب الذي له مطلق التفويض في اختيار ممثليه في كل أنظمة العالم ... في الحالة التونسية على السلطات أن تختار الأحزاب التي تمنحها الاعتراف "القانوني" , وعلى السلطات أن تختار من بين هذه الأحزاب ديكورا في المجالس النيابية البلدية أو البرلمانية ..., كما أن على السلطات أن تختار من بين هذه الأحزاب مرشحين للتجميل في مسرحية أي سباق انتخابي... واذا قدر لهذه الأحزاب أن تخرج عن الدور المرسوم لها بعد منحها سلطان الاعتراف بقوة القانون , فانه يأتي دور السلطات في تقليم اظافر هذه الأحزاب وتجفيف منابعها ودس العيون والمثبطين في أوساطها , ولم لا الزج بمناضليها في السجون ...! هو مايحدث اليوم في تونس كليا أو جزئيا مع الحزب الديمقراطي التقدمي ومع التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات ومع حركة التجديد ..., هذا الثلاثي الذي خرج عن الطوق المرسوم له في لعبة تأثيث المشهد السياسي المغشوش باسم الحداثة أو الديمقراطية المتدرجة ! والى هذا الحد لن نحدثكم عن أحزاب أخرى بنت شرعيتها على الاحتكاك بالجماهير وعلى تأطير النخب من منطلق المنافسة الجدية للسلطة ولو كان ذلك خارج اطار الشرعية المزيفة التي تضفيها السلطة على من تشاء أو تسحبها ممن تشاء باسم دولة القانون والمؤسسات التي لانجدها الا حبرا على ورق رسمي تصدره الدولة أو في خطاب اعلامي خشبي تحتكره جماعات رسمية أو شبه رسمية ... لن نحدثكم عن حركة النهضة التي قالت السلطة عنها محظورة ونسيت أن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة طلب يوما ما من مقربيه عدم استعمال هذه الصيغة في التكفير السياسي لأن الحزب الحاكم في تونس لم يحصل يوما ما على تأشيرة قانونية من السلطات الاستعمارية اذ أنه كان ولازال حزبا محظورا بمنطوق النص القانوني ...! ولن نحدثكم أيضا عن حزب العمال الشيوعي ولا عن المؤتمر من أجل الجمهورية فهذه أحزاب موبوئة بمطالب التغيير والاصلاح وربما المطالبة بشرعية قانونية ودستورية جديدة , وهو ماتكفر به السلطة وتعده مروقا غير مغتفر ... والى حد هذا الموضع يبقى كل شيء في تونس طبيعيا في دولة تغولت الى الحد الذي أصبح فيه الانتماء الى المجتمع المدني كفرانا بمشروع التغيير وصانعه كما يحن للبعض أن ينعت النضال في سياق المجتمعات المدنية !!! وماليس طبيعيا ويصل الى حد التهافت الأخلاقي في التعامل مع الخصوم هو ماحدث قبل أيام مع المهندس علية الكوكي الذي زج به في مستشفى للأمراض العقلية لمجرد اعلانه رسميا الرغبة في الترشح للانتخابات الرئاسية !!! ربما أخطأ الكوكي حين فاجأ الرأي العام دون ماض سياسي معلن بهذه الرغبة الدستورية والقانونية المشروعة في الترشح , وهو ماسهل على أجنحة رسمية اتهامه بالاختلال العقلي ! , ولو أن كل التقارير تثبت صحة الرجل وتماسكه ذهنيا وفكريا ونفسيا , ويكفي أن أذكر بأن اذاعة كلمة كانت قد أجرت معه حوارا اذاعيا يومين فقط بعد ايداعه بمستشفى الرازي , وقد أكد من خلاله مهارة في التعبير عن طموح قانوني وسياسي مشروع حين أثبت وبنفسه سقوط وتهافت ماتدعيه السلطة في حقه , وهو ماأكده أيضا سياسيون ونشطاء حقوقيون كالأستاذ مولدي الزوابي القيادي بمكتب الحزب الديمقراطي التقدمي بمحافظة جندوبة والأستاذ المحامي رابح الخرايفي ... وقد أوضح الكوكي في المقابلة الإذاعية إن اعتقاله وإيداعه بمستشفى الأمراض العقلية يهدف إلى ما وصفه بترهيبه وتخويفه لحرمانه من الحق القانوني في الترشح للانتخابات الرئاسية. هذا وستواصل اذاعة كلمة إعادة بث هذه المقابلة ل"يدرك كل من يستمع إليها أن الكوكي غير مصاب بأي مرض عقلي". هذه مأساة الوضع السياسي في تونس , حين يصل الأمر بالسلطات الى اقحام مستشفيات الأمراض العقلية في الحياة العامة ليصبح المطالبون بالتغيير والاصلاح مرضى عقليين وليظهر المتمسكون بالسلطة وأهدابها في مقام العظماء والفلاسفة وحكماء العصر ...! السؤال المطروح هو : هل يمكن أن يكون المهندس علية الكوكي منافسا حقيقيا للرئيس بن علي حتى يستحق هذا الجزاء داخل مستشفى الرازي للأمراض العقلية !؟ الجواب قطعا لا , ولكن هناك أزمة حقيقية يعيشها هذا الوطن وعنوانها هذه المرة اختلال قيمي في السياسة الرسمية التونسية ...! الجمعة - 10 أفريل 2009