حين نزل البابا على أرض المملكة الأردنية الهاشمية يوم الجمعة الماضي صرح بأنه جاء للحج و أنه يرجو للشرق الأوسط أمرين هما السلام و الوحدة، في حين أعلن في كلمته الأولى بأن إحدى غايات الحج هي إصلاح ذات البين بينه و بين المسلمين بعد الإساءة للإسلام التي ارتكبها في محاضرة راستيبون منذ ثلاثة أعوام و أراد التكفير عنها بتأكيد الإحترام العميق الذي يكنه للإسلام كما قال في العاصمة الأردنية. و زار البابا كذلك مدينة القدس و مدينة بيت لحم و مدينة الناصرة. و إذا ابتعدنا بعض المسافة عن تصريح البابا، وهو تصريح دبلوماسي لأن البابا ليس فقط رجل دين بل هو رئيس دولة الفاتيكان وهي دولة مستقلة و عضو في منظمة الأممالمتحدة، فإننا نكتشف سيلا طاميا من المغالطات والتلاعبات بالعواطف في عديد وسائل الإتصال الغربية هدفها تجييش الرأي العام الغربي المسيحي ضد الإسلام و المسلمين في هجمة ترافق مع الأسف زيارة البابا و تحاول الإنحراف بها عن مقاصدها النبيلة التي أرادها الحبر الأكبر و أرادها مضيفة العاهل الأردني عبد الله الثاني و أرادتها أيضا تلك الجماهير العربية التي تستقبل البابا في الشرق الأوسط بحفاوة وهي جماهير منها المسلمون و منها المسيحيون. نقرأ في نفس اليوم الذي بدأ فيه البابا جولته مجلة (لوبوان ) الباريسية تقول في تحقيق لها حول المسيحيين العرب بأن موجة الإسلاموية تهدد التواجد المسيحي العربي العريق! و نقرأ تصريحات رسمية لأعضاء في الحكومة الفاتيكانية تردد أو تزايد على هذه التوجهات، منها تصريح للأسقف فرناندو فيلوني سكرتير العلاقات الخارجية للبابا يقول بأن المسيحيين العرب يغادرون أوطانهم بسبب صعوبة العيش الأمن فيها و بسبب عسر إيجاد مواقع عمل لأولادهم، و يعزو الأسقف هذه الحالات إلى أن المجتمعات العربية متأثرة بالإسلام! و سبق أن قرأنا تصريحات نطق بها لإذاعة الفاتيكان البطريك أنطونيو فيغليا رئيس الكنائس الشرقية الكاتوليكية يلقي فيها تقريبا بنفس التهم غير المسنودة بأي دليل على المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، حين أكد بأن البابا شديد الإنشغال بأوضاع المسيحيين العرب و أن الفاتيكان فتح صناديق جمع الأموال في دول غربية عديدة لمساعدة هؤلاء على العيش الكريم. و نحن لا ننفي أن بعض المشاكل تطرأ على التعايش السلمي الطبيعي بين المسلمين وإخوانهم المسيحيين في بعض الحالات القليلة و الإستثنائية لكنها لا تخرج عن مثيلاتها التي تقع لنا نحن المسلمين في المجتمعات الغربية. فنحن أيضا نعيش في مدن أوروبا و أمريكا ونتعرض لبعض مظاهر العنصرية الفردية أو للتحرشات المتعصبة من قبل أحزاب اليمين المتطرف أو حتى من بعض القوانين و السلوكيات، كما يصادف أولادنا صعوبات جمة لإيجاد عمل أو مسكن أو جامعة للدراسة. لكننا لا نتهم لا المسيحية و لا المجتمعات المسيحية باضطهادنا و تهجيرنا. ففي كل الأديان متطرفون و جهلة و عنصريون و لا يشذ أي دين عن هذه الإنحرافت النادرة. الغريب في أمر الإعلام الغربي المغشوش هو أنه ينظر بعين واحدة و يتنفس برئة واحدة لأنه لا ينبس بحرف حول بناء جدار العار الإسرائيلي الذي أدانته محكمة العدل الدولية بلاهاي وهو جدار يحرم 147000 فلسطيني مسيحي في الضفة الغربية و في إسرائيل من زيارة كنائسهم و بخاصة كنيسة المهد في بيت لحم ! بل لا تذكر وسائل الإعلام المنحرفة بأن أسقف قطاع غزة الأب مانوال مسلم بح صوته حينما كان يستصرخ ضمير الفاتيكان ووجدان الأمة المسيحية لتهب إلى نجدة المسيحيين الفلسطينيين الذين كانت قنابل فسفورية وعنقودية إسرائيلية تدك بيوتهم على رؤوسهم أثناء العدوان الصهيوني على غزة الشهيدة! وهذه الجرائم ضد المسيحيين العرب موثقة من قبل منظمات إسرائيلية ذاتها! اليوم يعيش في المجتمعات المسلمة إخوة لنا في الوطن و الإيمان ( لأن المسيحي كتابي وأقرب لنا من منكر أو ملحد، و أوصانا القرأن الكريم بحسن التعايش معهم و حفظ كرامتهم) و توجد نسب متفاوتة في هذا التعايش أكبرها في لبنان (40% من المسيحيين) ثم في مصر (10%) تليها الأردن (6%) فسوريا (4,5%) فالعراق (3%) و لكن مأساة المسيحيين العرب الحقيقية هي ما يعانيه 210000 فلسطيني مسيحي مقسمين على الأراضي المحتلة و الدولة العبرية. وعن هذه المأساة المتواصلة منذ ستين عاما لا قلم غربيا يكتب و لا صوتا نزيها يصدح بالحق! بل لا نجد سوى الحملات المشبوهة الموجهة للإسلام كدين و كحضارة. ثم إن هذه الأبواق الضالة و المضللة تنسى تأسيس مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان وهو يقوم بجهود مكثفة لتحقيق و تعزيز الحوار بين الإسلام و المسيحية و اليهودية من أجل عالم أفضل و أسلم، و في رصيد المركز من المبادرات و المؤتمرات ما يشرف العرب و ما يدرأ شبهات المشككين. وهذه البادرة جاءت من دولة مسلمة و لم تأت نظيرة لها من أية دولة مسيحية أو علمانية! *رئيس الأكاديمية الأوروبية للعلاقات الدولية بباريس