يتبين لمن يتابع المقالات التي تنشر في الصحف العربية , أو التحليلات التي تبث عبر الفضائيات العربية , بالنسبة للرئيس الأمريكي باراك أوباما , أن هناك صعودا وهبوطا , بل تخبطا , في فهم مواقفه من قضايا الشرق الأوسط . ولكن الغائب عن هذه التحليلات , أن الكثيرين ينسون أن أوباما رئيسا لأمريكا , وأن هدفه الأول خدمة بلاده وحمايتها وحل مشاكلها الداخلية , وبناء صورة إيجابية لها في العالم بعد شوه هذه الصورة رئيسها السابق جورج بوش ونائبه ديك تشيني , وذلك عن طريق تصحيح الخطوات التي إتخذتها تلك الإدارة وفي مقدمتها الحرب في العراق والموقف من قضايا الشرق الأوسط , ومن تعذيب المعتقلين وغيرها من الأمور التي رفضها الرأي العام العالمي بما فيه الرأي العام الأمريكي . ويتميز أوباما عن غيره من الرؤساء الأمريكيين بأن خلفيته تختلف عن خلفياتهم, وتجارب حياته تختلف عن تجاربهم ، وهو ذكي و يستعمل هذا الذكاء في تحليله للأمور . واهم شيء بالنسبة لنا أنه أول رئيس ( لغاية الآن على الأقل ) ينظر لمصلحة أمريكا بمنظار غير صهيوني . ويعرف أوباما أيضا أن الرئيس لا يستطيع لوحده صنع القرار الأمريكي أو تغيير سياسة بلده بمفرده , بل هناك سلطة تشريعية وسلطة إعلامية تراقبه وتقييم كل الخطوات التي يقوم بها . ولكن هذا لا يعني أن الرئيس قد يتخذ خطوات لم يسبق إتخاذها من جانب إدارات أمريكية أخرى , على غرار ما فعله الرئيس أيزنهاور في أعقاب الهجوم الثلاثي على مصر عام 1956, حين وجد أن من مصلحة أمريكا القومية إجبار إسرائيل على الإنسحاب من سيناء وقطاع غزة . . فقد برهن أوباما خلال الأشهر القليلة بوجوده في الحكم أن لديه المقدرة الفكرية والعقائدية كي ينظر بمنظار غير صهيوني للأمور , كون أن هذا المنظار, لا يتماشى دائما والمصلحة القومية الأمريكية . وهناك أمثلة كثيرة على ذلك في مقدمتها إصرار أوباما على مبدأ " الحل الشامل في منطقة الشرق الأوسط " والذي طرحه العرب في أعقاب نكبة 1948 ورفضته إسرائيل . وقد كرس هذا الرفض أنور السادات بمجيئه إلى إسرائيل , ومن ثم عقد صلح منفرد معها , مما عزز موقفها ورؤيتها الإستراتيجية القائلة أن الحل في الشرق الأوسط يجب أن يكون مجزءا كل دولة على حدة . فهناك مسألة حل الدولتين الذي تتبناه إدارة أوباما , فهذا الحل يجبر إسرائيل على التنازل عن نقطتين أساسيتين في مفهومها الإيديولوجي إذا ما قبلت هذا الحل : الأول التنازل عن مبدأ أن " ارض إسرائيل " تابعة لشعب واحد ولا يحق السيادة على هذه الأرض إلا للشعب اليهودي . والثاني في حالة قيام دولة فلسطينية , مهما كانت, ستضطر إسرائيل أن تحدد حدودها وهو أمر مرفوض صهيونيا . فهناك مواقف أمريكية أخرى بدأت تطفوا على السطح تؤكد وجهة النظر أن أوباما لا ينظر لمصلحة أمريكا بمنظار صهيوني بما في ذلك : أول مقابلة صحفية بعد توليه الرئاسة كانت مع تلفزيون عربي . وأول قائد من المنطقة جاء للبيت الأبيض كان عربيا . وأول زيارة للمنطقة وهورئيس ستكون لدولة عربية. وأول خطاب يوجه للأمتين العربية والإسلامية .سيكون من بلد عربي . وإسرائيل تنظر إلى ذلك بمنظار الشك لهذه التصرفات التي تتم بدون الإستشارة الروتينية التي عهدتها تل أبيب من الرؤساء الأمريكيين السابقين . فكل هذه الأمور وغيرها جيدة , ولكنها بحاجة إلى موقف عربي صلب يدعم موقف أوباما , لكي لا يفتر حماس وموقف الرئيس الأمريكي . فمن مصلحتنا أن يبقى أوباما أمريكيا ويتطلع لمصلحة أمريكا . ولكن الإنقسامات العربية وبالأخص الفلسطينية لا تساعد كثيرا . والتحدث العربي بلغات مختلفة يعيق مسيرة قد تكون تاريخية , وهو يحمل منظارا أمريكيا وليس صهيونيا أوعربيا . فعلى سبيل المثال التضارب في المواقف العربية من تحركات إسرئيل . ففي أعقاب الحرب الإجرامية على غزة قالت وزيرة الخارجية الإسرائيلية في حينه , تسيبي ليفنه , في مقابلة مع نيويورك تايمز :" إننا لا نحارب لوحدنا في غزة بل هناك دول عربية تؤيد حربنا ضدّ حركة حماس " . ثم كشفت صحيفة " معاريف " ( 21/5/2009 ) عن وثيقة إسرائيلية تقول أن السلطة الفلسطينية ضغطت على إسرائيل لإنهيار حماس . ثم هناك الموقف من إيران حيث ترى بعض الأنظمة العربية أن الخطر الأساسي عليها أتٍ من إيران النووية , حتى قبل أن تحصل طهران على هذا النوع من السلاح , وليس من الترسانة النووية الإسرائيلية القائمة الآن . فهذا التفكك العربي هو بحد ذاته الخطر الذي قد يدفع أوباما أن يكون كغيره من الرؤساء الأمريكيين بالنسبة لمشاكل الشرق الأوسط . نحن نعرف جيدا أن أمريكا ملتزمة إستراتيجيا بحماية إسرائيل , ولا يوجد رئيس أمريكي يستطيع أن يضع رصيده الشخصي في مأزق من أجل حل القضايا العربية والقضية الفلسطينية على رأسها , والعرب في هذه الحالة من التفكك . نحن بحاجة إلى أن تتساقط خرزات المسبحة , والمهم في الأمر سقوط أول حبة منها, لأنه بدون ذلك سيكون من الصعب الوصول إلى أي حل . إن في إستطاعت أوباما أن يحافظ على التعهدات الأمريكية لإسرائيل , ولكن في نفس الوقت ينظر إلى مصلحة أمريكا . فإذا كان السلام الشامل في منطقة الشرق الأوسط من مصلحة أمريكا فيجب أن يجد موقفا عربيا موحدا . وإذا كان حل الدولتين سيجبر إسرائيل على التنازل عن إستراتيجيتها وعقيدتها الصهيونية , فعلينا أن ندعمه في هذه المرحلة على الأقل , بالرغم من أن الحل الأمثل هو قيام دولة واحدة . وأوباما يسير بحذر كبير ولكن مع تصميم أكبر على تطبيق رؤتيه قناعاته للحل في منطقة الشرق الأوسط . وهذا هو السبب الذي دفعه , في اعقاب تقرير مخابراتي أمريكي , عن عزم إسرائيل توجيه ضربة عسكرية لإيران قبل وصول نتنياهو إلى واشنطن ,إلى إرسال رئيس " وكالة المخابرلت المركزية " الأمريكية , ليون فانتا, إلى تل أبيب وهو يحمل تحذيرا لها بأن لا تقوم بأية عمليات عسكرية ضدّ إيران( موقع صحيفة هأرتص 14/5/2009) ستكون هناك مناورات أمريكية كثيرة خلال رحلة أوباما للحل في المنطقة ,و سيطلب من العرب تقديم تنازلات إضافية , وستحاول أمريكا أن تطلب من بعض حلفائها العرب أن يلعبوا دورا أكبر في هذا المجال. ولكن لا يمكن محاربة المناورات الأمريكية , دون وحدة موقف عربي شعبي ورسمي ( إذا أمكن ذلك ) وأن يكون هذا الموقف موقفا صارما .