«القمح والزؤان» عنوان كتاب عن الحبيب بورقيبة الزعيم التونسي الذي حكم بلاده من 1956 حتى 1986 حين عزله رئيس وزرائه زين بن علي بحجة عدم قدرته على الحكم، وهي حجة لها ما يبررها، فالرجل كان، أسنّ وبلغ الثالثة والثمانين وانعزل تقريبا في قصره. دام حكم بورقيبة ثلاثين عاماً، أما خليفته أطال الله عمره فقد حكم حتى الآن ثلاثة وعشرين عاماً ولن يصعب عليه اللحاق بسلفه في المدة او تولية ابنه محله، الأمر الذي لم يفكر به بورقيبة رغم ان بكره يحمل اسمه. لنعد الآن الى بورقيبة والكتاب الذي ألفه أحد معاونيه ووزرائه عنه. لم يكن بورقيبة شعبياً إلا في تونس، أما خارجها فقد ساءت سمعته السياسية. لعل دعوته التحديثية على الغرار الاتاتوركي لم تلق ترحيباً كافياً آنذاك، لكن دعوته بالاخص الى سلم عربي إسرائيلي هي التي لطخت آنذاك سمعته وجعلت المتظاهرين العرب يرشقونه بالطماطم. ليست دعوة بورقيبة السلمية هي ما يذكرنا به الآن، ولكن شيئاً آخر، هو ثورة من فوق قام بها بجرأة طالما عدها البعض طيشاً وجموحاً. ثورة في القانون والسلطة والمجتمع. سن بورقيبة الحاكم الأوحد، من فوق، فصل الدين عن السلطة وأقام دستوراً مدنياً يتساوى الجميع فيه بدون عودة الى التصنيف الديني أو التخصيص الديني. لم تعد الدولة بذلك قائمة على تنفيذ الشريعة بل تركت الشريعة لأربابها وترك للناس ان يكونوا أحراراً في الرجوع إليها. هكذا بات للرجل والمرأة الحق ذاته لا في السياسة فحسب بل في الأحوال الشخصية. في الإرث والزواج والطلاق. كانت ثورة من فوق لكن ثورة جزئية، فعلى غرار الأتاتوركية اقترنت بالاستبداد وفرضت بالقوة، ولم يراع الظرف في تقريرها ولا برأي الناس ولم تتم تهيئة ثقافية او اجتماعية لها. مع ذلك فقد حدثت ولا تزال قائمة الى الآن. لقد حدثت، بعد مرور نصف قرن على إرسائها لن نقول اننا كنا نفضل لو لم تحدث. ولن يكون سوى زيادة كلامية التمني لو تكون قد حدثت في جو ديموقراطي وبوسائل ديموقراطية. لقد حدثت ولن تقول امرأة ذكية انها تفضل لو بقي حق الطلاق في يد الرجل وحق الزواج بأربع فضلاً عن حق الثلثين في الإرث وحق الشهادة الكاملة وحق التولية والوصاية... لا أحسب ان امرأة ذكية تفضل لو بقيت حقوقها في عهدة رجل الدين. أدت ثورة اتاتورك من فوق الاتاتوركية، بعد أقل من قرن الى انبعاث مشاعر دينية مكبوتة، وصعد الى السلطة رغم انجيل العلمانية حزب إسلامي صريح. انبعثت فضلاً عن نزعات اقليمية مكبوتة ايضاً. الارجح ان التحديث الاتاتوركي الذي سارع الى تغريب مفروض تصدى لا للدين وحده بل للتاريخ العثماني كله. كان في ذلك حماسة وطيش اكيدان، فمنع الحجاب على غير طائل قطع الشعب عن تاريخه، كانا طوباويين الى حد كبير. الغريب ان الاتاتوركية فرضت اندماجاً قومياً لا يعترف بالتعدد الوطني والثقافي، وفرضت على النسق نفسه على الصعيد الديني وحدانية مذهبية لا تعترف بالتعدد المذهبي والديني. من تناقضات هذه التجربة اسلمة وتركنة اسطنبول التي كانت حتى ذلك الحين مدينة كوسموبوليتية، من تناقضاتها عقل عسكري ذكوري أبقى قوانين ضد المرأة كذلك القانون الذي يكرس جريمة الشرف. لم تكن تجربة بورقيبة على هذا القدر من التقليد الأعمى أو القطيعة، لقد قصدت الى محور أساسي هو المساواة الحقوقية واظن ان منجزاتها، على هذا الصعيد، لا يمكن الانتفاض عليها أو مراجعتها. البورقيبية من هذه الناحية تاريخية وهي بين التجارب «الثورية» في ذلك العهد، أبقاها. ولعل تونس الحديثة المرفهة المتعلمة مدينة لها بالتأكيد. إن ريادة البورقيبية بهذا المعنى حقيقية، ولعل إقبال التونسيين على قراءة كتاب «قمح وزوان»، بعشرات الآلاف مصداق ذلك. لقد خرج بورقيبة من المطهر ناجياً وناجحاً.