لايشك التونسيون والتونسيات أو المثقفون العرب ممن عاصروا الزعيم التونسي والعربي الحبيب بورقيبة في وطنية وكفاح هذا الرجل الذي لانملك الا أن نسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة فيما أخطأ فيه التقدير أو أساء فيه التنزيل أو فيما زل فيه به لسانه ,وذلك من باب العرفان بما قدمه لجيل الاستقلال من فضائل وخصال مازال التونسيون يلمسون اثارها اليوم في حياتهم المعاصرة ,كما مازالت ألسنة العرب تتناقلها في بقاع الأرض قاطبة من باب الاقرار له بالنضج السياسي والواقعية في فهم المعادلات الدولية الصعبة أيام كان الخطاب الناصري والقومي يملأ ساحاتنا العربية ويهز المجتمع الدولي بما يقدمه من شعارات وخطب بلغت أوج غرورها حين وعدت برمي"اسرائيل" في البحر!. وقائع كثيرة تحسب لبورقيبة رحمه الله حين كان يحذر في الأربعينات من القرن الماضي الحركة الوطنية من الانسياق وراء التيار النازي في تونس المستعمرة انذاك فرنسيا ,وقد توقع يومها في غير خطأ انهيار المشروع النازي بعدما كانت كل المعطيات تؤكد سيطرة ألمانيا على القارة الأوربية ومناطق أخرى واسعة من العالم. ولم يكن خطاب أريحا الشهير الذي يتذكره الاخوة الفلسطينيون الا علامة أخرى على تميز الرجل بالحنكة والدهاء حين دعى الفلسطينيين الى القبول بمشروع الدولتين المتجاورتين مع مواصلة الكفاح الوطني المقاوم من أجل استرداد بقية الأرض المسلوبة من قبل الاحتلال الاسرائيلي,غير أن الرئيس جمال عبد الناصر والقوى القومية العربية والتيارات الاسلامية يومها سخرت من الرئيس التونسي بناء على مايتملك العرب والمسلمين من طموحات ثورية ونقائية لم تتمثل تعقيدات الوضع الدولي وعمق التحالف الغربي الاسرائيلي..,وهو ماأدى الى حرمان الشعب الفلسطيني يومها من مشروع دولة كان من الممكن اقامتها ولو بشكل مؤقت على نصف خارطة فلسطين التاريخية...! أما اليوم فهاهم الفلسطينيون مع كبير احترامنا وتوقيرنا واجلالنا لتضحيات شعبهم المرابط وكل قواه الوطنية الحية ,يتقاتلون على من يحكم غزة التيار الفتحاوي أو حركة المقاومة الاسلامية ؟!,بعد أن تقهقر مشروع التحرير من مربعات خطاب أريحا الذي سخر منه قادتهم القوميون الى مربعات "أوسلو" و"مدريد" و"واي ريفر" و"واي بلنتايشن" و"خارطة الطريق" ثم الحرب الأهلية الداخلية التي تتاهفت على مساحة تديرها سلطة وطنية فلسطينية على أقل من أربعة في المائة من مساحة فلسطين التاريخية!!!... وقف بورقيبة بمقولته التاريخية "خذ وطالب" مدرسة وطنية ذكية في مواجهة قوى التحنط السياسي والخطاب الديماغوجي الذي لايحسن الا تقديم الخطب والشعارات الرنانة ,ومن ثمة فقد قبل تاريخيا قبل أن يسوق نموذجه التاريخي للاخوة والأشقاء الفلسطينيين ,قبل بمشروع الحكم الذاتي سنة 1952 على أمل نيل الاستقلال الرسمي سنة 1956 ثم استكمال مشروع الجلاء العسكري الفرنسي عن قاعدة بنزرت البحرية والجوية التونسية سنة 1958...,وشهد قبيلها بسنوات قلائل وتحديدا سنة 1955 تحديا يوسفيا خطيرا ,في ظل انسياق الزعيم الوطني صالح بن يوسف رحمة الله تعالى وراء المدرسة الناصرية في الخطاب السياسي ,وكان أن حسمت المعركة لاحقا وفي اطار تاريخي يحتاج الى كثير من اعادة النظر والتدقيق بنار السلاح الذي يمكن أن يكون بداية أخطاء لم تخل منها مسيرة الرجل. بورقيبة رحمه الله مدرسة سياسية عظيمة وعريقة لايمكن النظر اليها بعين التقديس ,فعلاوة على أنه كان رجل التحرير والدولة والبناء والاعمار ومجانية ورقي الصحة والتعليم ...فان له أيضا أخطاءه التي لابد أن نقف اليوم عندها بالتأمل واعادة النظر حتى لانقدم للأجيال التونسية والعربية القادمة تجربة مشوهة لاتنقل عن الرجل الا التعظيم والتقديس والاجلال ومن ثمة يصبح نهجه بايجابياته وسلبياته طريقا ملزما للتونسيين حتى بعد مرور العشرات من السنوات عن ازاحته عن الحكم وانتقاله الى الرفيق الأعلى. لن أكون في هذا المقام تكرارا لمقولات الأستاذ راشد الغنوشي الذي رفض الترحم على الرجل يوم وفاته مستجمعا وبشكل حصري يوم رحيله عن الدنيا واجتماع عشرات الالاف من التونسيين والتونسيات حول موكب جنازته الصفحات السلبية فقط من تاريخه ,ومتناسيا فضله علينا بعد الله تعالى أولا واخرا في الدولة المستقلة الحديثة ذات النظام التعليمي الراقي والخدمة الصحية المتقدمة والمؤسسات الخدمية والادارية المحترمة وسط مناخات دولية واقليمية بددت فيها شعوب عربية واسلامية أخرى وذات ثروات باطنية قدراتها التنموية في الحروب والصراعات الأهلية الداخلية في ظل حمى ماعرفه العالم انذاك من حرب باردة . كما لن أكون في هذا الموضع أتاتوركيا الى الحد الذي يحكمنا فيه بورقيبة رحمه الله من قبره ,حيث أن تونس بشعبها المعطاء وقادتها المتجددين قادرة على ابداع تجارب فكرية وسياسية تنهل من تجربة الرجل الثرية ولاتجد حرجا في مراجعة أخطائه دون عقد أو صنمية ,تحول من قبره مزارا لايحق لغير الأماكن المقدسة وهي مكةالمكرمة والمدينة المنورة والمسجد الأقصى عجل الله بفرج كربه وكرب أهله في كل انحاء أرض فلسطين . لقد أخطأ بورقيبة خطأ فادحا بلاشك في نظرته الى مؤسسة حضارية ودينية عريقة وهي الجامعة الزيتونية بمختلف فروعها في أنحاء الجمهورية التونسية ,ومن ثمة لعب دورا في تحويل القائمين عليها وخريجيها الى شيء تراثي استغنت الدولة شيئا فشيئا عن خدماته مما تسبب لاحقا في احداث حالة فراغ ديني وفكري وثقافي غير معقول وهو مامهد لاحقا لظهور الحركة الاسلامية كردة فعل على حالة اللاتوازن الثقافي صلب المجتمع التونسى. أخطأ بورقيبة بلا شك في بعض اجتهاداته المتحررة من الضوابط الفقهية الاسلامية المجمع عليها نصا وعقلا ,ومن ثمة لم تكن دعوته الى الافطار في شهر رمضان في أواسط السبعينات أو بداياتها بدعوى تقديم التنمية على فريضة الصيام الا ترنيحة من ترنيحات الحكم الفردي الذي لم يخضع لمشورة أهل العلم والتخصص الفقهي ,كما أخطأ بورقيبة في مانقل عنه -دون تحقق علمي وتاريخي شخصي من ذلك- في نظرته لللقصص القراني وماأراده الله فيه من عبرة للناس ...وأخطأ بورقيبة في قرنه لمفهوم تحرير المرأة بتخليصها من اللباس العربي والاسلامي المحتشم ومن ثمة اقدامه على نزع السفساري التونسي عن رأسها تحت مشهدية وامتاعية الكاميرا بعد تقبيل وجنتيها أمام عدسات التلفزيون..,كما أخطأ بورقيبة حين وافق أو غض الطرف على استصدار المنشور 108 الفضيحة المحارب للحجاب . ولعل أبرز أخطاء الرجل بعد تجرئه على الاجتهاد في النص الديني -القران خاصة - دون امتلاك اليات الاجتهاد المعرفي الفقهي المتخصص المتعارف عليه في معظم جامعات العالم الاسلامي وأقصد بذلك الأزهر وجامعة فاس وأم القرى والمدينة المنورة ودمشق والزيتونة على أيام تألقها العلمي والمعرفي...,لعل أبرز أخطائه تكمن في نزعته الى الاحتفاظ بكرسي الرئاسة في فترات الهرم والشيخوخة والعجز المترتب عن المرض وتقدم السن وهو ما ساهم في زعزعة أمن واستقرار البلاد منذ نهاية السبعينات أو بداية الثمانينات ومن ثمة جعل المراقب غير المنصف والقوى السياسية الصاعدة تنظر الى الرجل وتجربته الوطنية بعين الحيف والاستخفاف وتصفية الحسابات الدينية والفكرية والسياسية ولاسيما في ظل ماعرف به الرجل من أفكار تحررية جريئة لم تكن محل استساغة من قبل قادة الحركة الاسلامية التونسية التي لم يعرف قادتها الى حد كبير كيفية التفاعل مع شخصية الرجل أيام أفسح لهم فرصا من التعبير والتنظم والتفكير باتوا يتحسرون اليوم عليها في ظل اتقان أطراف أخرى لأصول اللعبة السياسية وفشل "الاسلام الاحتجاجي" في تونس في افراز خطاب وفعل سياسي معقول ومنطقي يخرج من دائراة المواجهات والصراعات والمغالبات التي لم تزد الدولة الا ابتعادا بمسافات كبيرة عن طروحات وجسم التيار لاسيما بعد مرور حوالي 26 سنة على أول التحام أمني بين السلطة بأجهزتها الحداثوية وبين الحركة المعارضة بخطابها وممارساتها الطامحة الى استثمار اخطاء البورقيبية دون النظر الى ايجابيات التجربة في بعدها التنموي والتحريري. *كاتب واعلامي تونسي- رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية[email protected] المصدر صحيفة الحقائق الدولية الصادرة من لندن بتاريخ 4 فبراير 2007 + صحيفة المصريون بتاريخ 11 فبراير 2007