تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد الفاتح: نعم الأمير لنعم الجيش (833ه/886ه)
نشر في الوسط التونسية يوم 09 - 10 - 2009

روى الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش» قال فدعاني مسملة بن عبد الملك، فسأله فحدثته، فغزا القسطنطينية
منذ بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم كان فتح القسطنطينية طموح القادة والخلفاء المسلمين، فلقد بعث معاوية بن أبي سفيان حملة لفتجها سنة 47 ه/667 م، ثم عاود الأمويون محاولتهم في عهد سليمان بن عبد الملك فأرسل أخاه وقائد جيوشه مسلمة بن عبد الملك سنة 98 ه/719 م.
كما تجددت هذه المحاولات في عهد العثمانيين مع الخليفة بايزيد الأول، المعروف بالصاعقة، سنة 796 ه/1393 م ثم مراد الثاني والد محمد الفاتح ولكن دون نجاح يذكر.
وجاء الفاتح
ولد السلطان محمد الفاتج في 26 رجب 833 ه / 20 مارس 1429 م وكان أبوه مراد الثاني قد حرص على رعاية ابنه وتعليمه ليكون جديرا بالخلافة فعهد بتعليمه إلى الشيخ أحمد بن اسماعيل الكوراني، شهر عند الأتراك باسم "الملة كوراني"، فحفظ القرآن وقرأ الحديث ودرس الرياضيات والفلك والميكانيكا، كما أجاد العربية والفارسية واللاتينية واليونانية وأتقن فنون الحرب والقتال.
عينه والده، واليا على مغنيسيا، وهو صغير السن، ليربيه على شؤون الإمارة وإدارة الدولة، وأرسل معه مجموعة من كبار العلماء منهم الملة كوراني والعالم الجليل محمد بن حمزة الدمشقي الرومي، وكان يلقب "آق شمس الدين"، و"آق" تعني الشيخ ذو اللحية البيضاء، وكان لهذا العالم الجليل تأثير كبير على الفاتح فلقد كان يرفع همته إلى معالي الأمور ويلمّح له أنه هو المقصود ببشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، فشب طامح النفس، عالي الهمة، محبا للفضائل ملما بشؤون الحرب والسياسة.
بعد وفاة والده في 5 محرّم 855 ه/ 7 فبراير 1451 م تولى محمد الفاتح الخلافة، فبدأ الإعداد لفتح القسطنطينية، فاستقدم مهندسا مجريا يدعى "أوربان" فصنع له مدفعا ضخما لم ير مثله، يقذف قذائف هائلة تكفي لثلم أسوار القسطنطينية، وسمي بالمدفع السلطاني وقطع الطريق من أدرنة، أين تم صنعه، إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين.
كما قام ببناء سفن جديدة في بحر مرمرة لكي تسد طريق الدردنيل، وشيد قلعة على الجانب الأوروبي من البوسفور تعرف باسم قلعة "رومللى حصار"، أي قلعة الروم، وهي قلعة محصنة عظيمة، وكانت هذه القلعة تقابل القلعة التي بناها جده السلطان بايزيد في البر الأسيوي ليستطيع السيطرة على مضيق البوسفور. وأعد جيشا جرارا بلغ عدده ربع مليون جندي، زودهم بأحدث الأسلحة في زمانه.
إلى جانب الإعداد المادي للمعركة الفاصلة توجه الفاتح إلى جيشه يربيهم على الجهاد ويحثهم عليه ويذكرهم ببشارة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وفي يوم الخميس 26 ربيع الأول 857 ه/6 أبريل 1453 م وصلت الفيالق العثمانية بقيادة السلطان محمد الفاتح إلى مشارف القسطنطينية، فخطب فيهم خطبة حثهم فيها على الجهاد في سبيل الله، وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم كما تلا عليهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وبشرهم بأنهم هم هذا الجيش .
فتح القسطنطينية
مدينة القسطنطينية بناها الإمبراطور قسطنطين الأول، أحد أباطرة بيزنطة سنة 330 م، وسماها باسمه، وجعلها عاصمة للإمبراطورية البيزنطية، واعتنقت المذهب الأرتوذكسي وصارت ممثلة الكنيسة الشرقية.
إلى جانب أهميتها الدينية كانت القسطنطينية مدينة استراتيجية، فهي المدخل إلى أوروبا، وكانت مدينة حصينة يحيط بها البحر من ثلاث جهات: مضيق البوسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي، وهذا الأخير هو الذي يشكّل أحد مداخلها، وكان البيزنطيون حصنوه بسلسلة حديدية ضخمة تمنع كل هجوم على المدينة.
إضافة إلى هذا الموقع الإستراتيجي، أقام البيزنطيون حول مدينتهم خطين من الأسوار، سور خارجي ويبلغ ارتفاعه خمسة وعشرين قدما، 7,5 مترا، وبعد هذا السور أرض فضاء عرضها ستون قدما، أي عشرون مترا، جعلت على شكل خندق، وبعد هذا الخندق سور ثان أعلى من الأول ارتفاعه أربعون قدما، 12 مترا، وعليه أبراج مليئة بالجنود يصل ارتفاعه إلى ستين قدما. وبذلك كانت القسطنطينية، إضافة إلى ما جهز فيها البيزنطيون من مظاهر الأبهة، مدينة محصنة ومنيعة، وصفها نابليون قائلا: "لو كانت الدنيا مملكة واحدة، لكانت القسطنطينية عاصمة لها".
قام محمد الفاتح بتوزيع جيشه حول المدينة ، فأحكم حصارها من جهة البر، ونصب مدافعه العملاقة في مواجهة الأسوار، ونشر سفنه في المياه المحيطة بها. في الوقت الذي كان الحصار البرّي ناجحا بقي الحصار البحري متعثرا فلقد استطاعت مجموعة من السفن اختراق الحصار العثماني ودخلت المدينة، مما دفع بالفاتح إلى عزل قائد اسطوله البحري. وهكذا كان الحصار البحري نقطة الضعف الوحيدة في حصار المدينة، فإضافة إلى أن خبرة المدافعين البحرية كانت تفوق خبرة البحرية العثمانية، شكلت سلاسل القرن الذهبي عائقا كبيرا أمام اقتحامه فبقيت سفن الإمدادات القادمة من جنوة والبندقية والمالك النصرانية تنفذ إلى سكان المدينة.
لما عجز محمد الفاتح عن دخول القرن الذهبي، تفكر في الأمر وتفتقت عبقريته العسكرية عن خطة ذكية، فلقد قرر الفااتح أن ينقل سفنه إلى القرن الذهبي عبر البرّ.
فكيف كان ذلك؟
كانت خطته ان يرفع سفنه من مرساها في البوسفور ثم ينزلها إلى القرن الذهبي ويفاجيء المدافعين عن المدينة، كانت المسافة التي يراد قطعها تبلغ ثلاثة أميال، وكانت غير معبدة. وفي الحال بدئ في تنفيذ الخطة، فكثفت المدفعية قصفها للمدينة لتشغل المدافعين، كما حشدت، تحت جنح الظلام، جماعات غفيرة من العمال قامت بتمهيد الطريق، وغطي بألواح الخشب المطلي بالدهن والشحم، وفي ليلة واحدة تمكن العثمانيون من نقل سبعين سفينة طويت أشرعتها تجرها البغال والرجال الشدّاء، وما كاد الصبح يسفر حتى نشرت السفن العثمانية قلاعها وكانت مفاجأة مروّعة لأهل المدينة المحاصرة.
اشتد الحصار على المدينة، وحاول البيزنطيون حرق السفن العثمانية ولكنهم فشلوا وحشد الفاتح جنوده وفي معركة فاصلة استطاع جيشه ان يقتحم المدينة، فقُتل الإمبراطور وفر المدافعون ودخل محمد الفاتح المدينة ظافرا، فترجل عن فرسه وسجد شكرا لله، ثم توجه إلى كنيسة أياصوفيا وأمر بتحويلها إلى مسجد، كما أمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، ومنح الشعب البيزنطي ورهبانه الأمان وسمح بعودة الذين غادروا المدينة اثناء الحصار.
بعد الفتح اتخذ محمد الفاتح القسطنطينية عاصمة لدولته وغير اسمها من القسطنطينية إلى "إسلام بول" أي "دار الإسلام" ولكنها حرفت بعد إسقاط الخلافة وتغيير الحرف العربي إلى الحرف اللآتيني وما رافق ذلك من طمس كل المعالم والأثار الإسلامية في تركيا إلى استانبول.
أحدث فتح القسطنطينية دويا هائلا في روما والممالك النصرانية، وفي المقابل استبشر به المسلمون وعمت الفرحة بتحقق بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظم الشعراء شعرا، ومما قيل في هذا الفتح:
الله أكبر هذا النصر والظفر هذا هو الفتح لا ما يزعم البشر
ما بعد الفتح
بعد فتح القسطنطينية اتجه محمد الفاتح، الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، إلى استكمال الفتوحات في بلاد البلقان، ففتحت صربيا، سنة 863 ه/1459، ورومانيا سنة 866 ه/1462، والبوسنة والهرسك بين عامي 867870 ه/14631465 ودخل في حرب مع المجر.
وكان محمد الفاتح يطمح إلى فتح روما ليزيد فخارا إلى فخاره، فأعد لذلك عدته وجهز أسطولا عظيما ونجح في الإستيلاء على قلعة مدينة "أوترانت" التي قرر أن يتخذها قاعدة يزحف منها شمالا في شبه جزيرة إيطاليا، حتى يصل روما، ولكن المنية وافته في 4 ربيع الأول 886 ه/3 مايو 1481 فتنفست أروبا الصعداء ويروى أن البابا أمر أن تقام صلاة الشكر ثلاثة أيام ابتهاجا بهذا النيأ.
محمد الفاتح: السلام مع الله والكون والزمان
المتمعن في سيرة محمد الفاتح يجد أن الغالب عليها هو الجهاد، وخاصة فتح القسطنطينية، إلا أننا لو تتبعنا تفاصيل هذا الجهاد لوجدنا أنه يتأطر ضمن سياق ديني وحضاري متكامل.
كيف ذلك؟
لبيان ذلك يجد العودة إلى بعض المحطات التاريخية التي لها علاقة بفتح القسطنطينية لنجد أن عمر بن عبد العزيز، الخليفة الراشد الخامس، لاحظ بعد توليه الخلافة أن المسلمين تكبدوا خسائر كبيرة في حصار القسطنطينية بسبب الصعوبات التي تعرضوا لها فأوقف الحملة التي أرسلها سليمان بن عبد الملك وأمر قائده مسلمة بن عبد الملك بفك الحصار لأن في ذلك حفاظ على المسلمين ولأن الجهاد في الإسلام ليس الهدف منه القتل وسفك الدماء، وإنما هدفه تحقيق تصالح وسلام في الكون والزمان. ففلسفة الجهاد في الإسلام تلخصها الجملة التي قالها ربعي بن عامر أمام قائد الفرس "إننا جئنا لنحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ولنخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام" فالجهاد بهذا المعنى له هدف كوني وهو تحرير الإنسان بصفة عامة، وهدف ديني وحضاري قائم على العدل باعتباره أساس العمران. ومن ثمة فإن عمر بن عبد العزيز لما تبين له أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه أوقف الحملة.
وأمّا محمد الفاتح فلقد تأكّد عنده أن الفتح ممكن وأنه بالفتح يأسس لزمن جديد لذلك أصر على فتح القسطنطينية ولكن بالشروط التي بينتها السنة، فلم يفعل مثل قادة الجيوش إذا دخلوا مدينة استباحوها وعاثوا فيها الفساد، فقتلوا ونهبوا وسلبوا... والتاريخ يعلمنا أن سقوط أي عاصمة يصاحبه الدمار منذ ما قبل سقوط طروادة حوالي 1188 ق.م. أو السبي البابلي على يد بختنصر سنة 586 ق.م. أو تدمير قرطاج سنة 149 ق.م أو نهب روما سنة 410 م على يد القوط الغربيين تحت قيادة ألاريك، والتي استوحى منها القديس أوغسطين كتابه "مدينة الله" (De civitate dei)، إلى سقوط بغداد قديما 656 ه/1258 م وحديثا 2003 دون نسيان الحركة الإستعمارية إلخ... ولم يُسْتَثنَ من هذا المنهج النهبوي والمفسد إلاّ الفتح الإسلامي الذي تعامل مع المدن المفتوحة بالأمن والسلام، في مستوى لم تصله أي حضارة منتصرة، فكان إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل مكة "إذهبوا فأنتم الطلقاء.." منهجا سار عليه كل الفاتحين في القدس وفي مصر وفي الأندلس وفي غيرها ... وصولا إلى محمد الفاتح.
إن محمد الفاتح كان حريصا على اتباع تعاليم الجهاد الإسلامية في نفسه ومع جيشه، فنجده كما كان يدرب جيشه على السيف والقتال يدرّبه على الطاعات والخوف من الله سبحانه وتعالى ويشدّه إلى السنة من خلال تذكيره ببشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره لجنوده قبل فتح القسطنطينية بيوم بالصيام شكرا لله، كما نجده يوصي جنوده بأن لا يقتلوا امرأة ولا شيخا ولا راهبا إلخ.. في مشهد يذكرنا بتوصيات أبي بكر الصديق لجيوشه، كما تذكر المصادر، أن محمد الفاتح عندما دخل القسطنطينية ترجل عن جواده وصلى شكرا لله وأمّن سكانها على حياتهم وعلى دينهم وأذن لمن فرّ منهم بالعودة، في مشهد يذكرنا بدخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وتأمينه لسكانها وللفارّين منها، ممن قاتلوه وأبرزهم عكرمة بن ابي جهل.
كما نجد ان الجهاد الذي فتحت على إثره القسطنطينية أسس لزمن جديد يعيد الإعتبار والتبجيل لأهل العلم والإختصاص فلقد كان آق شمس الدين بالنسبة لمحمد الفاتح كما كان القاضي الصالح بالنسبة لصلاح الدين الأيوبي وكما كان رجاء بن حيوة وابن شهاب وغيرهما محل مشورة عند عمر بن عبد العزيز. فللعلماء حضور مركزي لأنهم يرشدّون الجهاد فلا ينحرف ويحفظ بالتالي العدالة في الكون.
وأما تأسيسه لزمن جديد فمصدره أن أغلب المؤرخين يعتبرون أن فتح القسطنطينية، وسقوط غرناطة كانا إعلان بداية عصر من ناحية ونهاية عصر آخر من ناحية اخرى: نهاية القرون الوسطى وبداية العصر الحديث.
ولكن أغلب المؤرخين يتغافلون على أن تأسيس هذا العصر الجديد كان في قطبيه الإيجابي والسلبي، فتح القسطنطينية او سقوط غرناطة إسلامي الهوية. مع ضرور التاكيد على أن هناك فرقا مهما بين لحظة التأسيس مع الفاتح، ولحظة السقوط في غرناطة، ففتح القسطنطينية يحيلنا إلى لحظة التأسيس النبوي عند نزول الوحي في غار حراء ليفتح مسارا من الفعل ينتهي بفتح مكة حيث يحقق النبي صلى الله عليه وسلم الأمن والسلام فدخل الناس في دين الله أفواجا لأنهم رأوا السلام والعدل، فتحقق الأمن الذي يحتل مرتبة مركزية في سلم أولويات الحاجات الإنسانية.
أما لحظة سقوط غرناطة فهي تبين لنا أن المسلمين بدأوا الإنسحاب عن دائرة الفعل لصنع الأمن والسلام إلى دائرة السلبية والإثقال إلى الأرض. ورغم أن محاولة العثمانيين في إعادة التأسيس والوقوف في وجه السقوط كانت كبيرة إلا أن الفعل الحضاري الإسلامي ككل كان يتجه إلى الضعف وهو ما أشار إليه ابن خلدون في المقدمة عندما تحدث عن نهضة عند المالك النصرانية مقابل ضعف إسلامي رأته عينه البصيرة.
وهكذا نخلص إلى أن المسلمين الأوائل التقطوا لحظة التأسيس الأولى، مع النبي صلى الله عليه وسلم، ودفعوها إلى الأمام فانجزوا الحضارة والأخلاق والفن وأما اللحظة الثانية، فتح القسطنطينية، فلم يلتقطها المسلمون وإنما استثمرها غيرهم فانتقلت الحضارة إليهم، والأهم من هذا كله أن العالم خسر بهذا السقوط الأمن والسلام.
إن حهاد محمد الفاتح كان من أجل إعادة التأسيس للحظة الأمن والسلام كما كانت على عهد النبوّة ولم تكن مطامح قائد شاب يهدف إلى السيطرة على العالم لأن الجهاد عند المسلمين ليس رغبة في سفك الدماء أو تكفير المجتمعات وإنما هو محاولة لتحقيق السلام في المستويات الثلاث التي أشرنا إليها: الله الكون والزمان
شكر وتقدير: أتوجه بالشكر والعرفان إلى كلّ الإخوة الأتراك زملائي في الشغل الذين بمجرد علمهم بأني أعد هذا المقال عن محمد الفاتح حتى قدموا لي عديد التوضيحات والإشارات لفك كلّ ما استعصى عليّ فهمه، وأخص بالذكر منهم: الشيخ محمد كالّي، إمام مسجد مدينة فرايسجن السابق، والأخ عرفان خاصة على الصور الفريدة.
المصادر:
محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق إحسان عباس، دار النفائس، بيروت، 1403 1983
الدكتور علي حسون، تاريخ الدولة العثمانية، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت 1400ه/1980
الدكتورعلي حسون، العثمانيون والروس، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت 1402ه/1982
عبد السلام عبد العزيز فهمي، السلطان محمد الفاتح، دار القلم، دمشق، 1413/1993
محمد صفوت مصطفى، السلطان محمد الفاتح، دار الفكر العربي، القاهرة، 1948
الدكتور محمد علي الصلابي، محمد الفاتح وفتح القسطنطينية، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، على الرابط
http://www.55a.net/firas/arabic/?page=show_det&id=913&select_page=1
حسن الطرابلسي ألمانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.