كنت أهم بالعودة الى الكتابة من بابها الكبير بعد استراحة وتأمل طاولا مدة الشهر ونيف.., ولقد راودتني فكرة الحديث عن العودة الامنة والكريمة الى تراب الوطن تونس منذ أسابيع , حتى طالعني خبر زيارة الأخ د.عبد المجيد النجار الى التراب الوطني بعد غياب عنه امتد الى فترة ناهزت العقدين... سررت لقراءة الخبر كما سررت لعودة امنة وكريمة سبقت للأخ العزيز محمد النوري , وقد سبق لي أن كتبت في الموضوع مرات عدة بعد أن صدمت ببعض تطورات عودتي الى مسقط الرأس بتاريخ 8 جانفي من سنة 2009... للأسف الشديد فان الواضح والى حد الان هو التعاطي غير الواضح للسلطات التونسية مع ملف العائدين أو الراغبين في العودة الى تراب الجمهورية التونسية , اذ أن معظم هؤلاء سبق له النشاط في صفوف المعارضة الوطنية والاسلامية , وتم تصنيفه خصما سياسيا غير مرغوب فيه ومن ثمة اثقال كاهله بأحكام غيابية عفا عنها الزمن وتجاوزتها الأحداث والوقائع بعد مرور حوالي عقدين على تاريخ أبرز مواجهة سياسية بين السلطة وحركة النهضة كبرى حركات المعارضة غير المرخص لها بالعمل وفق أحكام القانون... كنت أعتقد فيما سبق أن الدفاع عن المكاسب الوطنية وتبني خيار الوسطية الفكرية والسياسية والقيام بمراجعة شاملة للتجربة السياسية السابقة هو الكفيل للتجاوز من قبل السلطات والمعارضة على حد سواء..., غير أنني صدمت أيام عودتي باستجماع الجهاز القضائي وبغمز سياسي شبه رسمي لكل الملفات السابقة من أجل اشعاري بالانتماء الى دائرة ثلث أو ربع المواطنة , بعد تجريدي من حرياتي في التعبير والكلام ومن حقي بالتمتع بكل ماكفله لي الدستور والمعاهدات الدولية من حقوق فكرية وسياسية واجتماعية... كانت الصدمة يوم الثامن من يناير 2009 بحجم الفاجعة , وقد اخترت يومها أن أعود الى منفاي والاحتراز بصوت عال على أساليب الكلبشات والزنزانة والادانة بتهم لاتليق ..! عشت حرا مرفوع الرأس طيلة حياتي , وقد أحسست أن الكلم الطيب والنقد الذاتي والصفح والتجاوز لم تكن بعد حوالي 18 سنة من منفاي كفيلة لدى البعض بطي ملف وقع تجاوزه تاريخيا وسياسيا وحتى وطنيا ..., اذ كان الاستنتاج والاستخلاص بأن المطلوب هو العودة بثمن كسر الارادة والجناحين والتكبيل والابتزاز بسنتين سجنا مع تأجيل التنفيذ مع استصحاب قضية أخرى تركت مفتوحة على ذمة قضاء يبحث الى اليوم عن الاستقلالية... استجمعت أخبار العودة المطلوبة هنا وهناك في المنافي والشتات , وتحديدا من المنفيين منذ مدة طويلة في بلاد الغرب , وقد تأكد لي أن المطلوب الى حد فترة لم تمض عليها الا أشهر أو أسابيع قليلة هو الاتي : -الاستقالة من حركة النهضة أو المؤتمر من أجل الجمهورية أو حزب العمال الشيوعي ,الخ..., في مقابل نيل شهادة استحسان رسمية ب"المواطنة الصالحة" من خلال تسلم المعنيين لوثيقة سفر تونسية تظل غير قابلة للتجديد في صورة التمسك بحق النقد والمساهمة في نشاطات المجتمع المدني المختلف... -تحديد جهة المرافعة حين الاعتراض لدى القضاء من قبل الراغبين في العودة , باشتراط السلطات عدم اختيار أي محامي محسوب على نشطاء المجتمع المدني... - التبرؤ من رفاق الأمس وادانتهم , في مقابل الاشادة بالجهة الأخرى التي حرمت المعارضة من حقوق التنظم والاجتماع والمساهمة الفاعلة في النشاط العام ... -اخضاع حق العودة للابتزاز السياسي والمالي أحيانا , من خلال طلب دعم العائدين أو الراغبين في العودة لمشاريع سياسية أو مادية غير مقتنعين بجدواها أو شفافيتها .., ومثال ذلك دفع اتاوات مالية عالية أحيانا لصندوق 26-26 ... - القبول بمطرقة رسمية -بذراع قضائي- تظل فوق رأس العائدين من خلال استصدار حكم لاتقل مدته عن سنتين سجنا مع تأجيل التنفيذ , مع تمطيط الماراطون القضائي قصد اشعار العائدين الى الوطن بعقدة الذنب , ودفعهم بشكل أو باخر للكفران بالعمل العام والانتماء الى عالم الرأي الاخر... هذه وبكل أمانة توجهات السلطة على مدار السنوات الأخيرة , والمقصود في كل الأحوال اضعاف المعارضة وتجريدها من رئة رئيسة , سياسية وحقوقية واعلامية في ديار الغرب , واذا قبلت السلطة بزيد أو بعمرو خارج هذا القياس فان الأمر لا يخرج استراتيجيا عن تحقيق هذا الهدف : فرق تسد ! وحين نصبو الى مراجعة جماعية وذاتية في ملف العودة الكريمة والامنة , فاننا نتطلع الى العودة بالموضوع الى مربعات المواطنة وماتقتضيه من حقوق الاختلاف والمغايرة ,,, وليس الابتزاز والمحاكاة والسير في ركب المباركة مع التنازل النهائي عن حق الاعتراض في كنف السلم المدني وقواعد المنافسة الشريفة... حين تكون العودة مصحوبة بشعور الخوف على النفس والأهل والولد , وكسر الارادة والتبرؤ من خيرة رفاق الأمس وطاقات تونس ونخبها السياسية والفكرية المبدعة , وحين تكون العودة اعلانا للهزيمة واشعارا لمصادري أحلام الديمقراطية بصحة وسلامة الخيارات حتى وان كانت بضريبة الام موت أمهاتنا وابائنا وخيرة الصحب ...مع قراءة روح الفاتحة على حركات وأحزاب وجمعيات تطالب بالنشاط العلني والقانوني والسلمي والمدني ..., فان العودة لم يعد لها من معنى الا تقمص دور شهادة الزور على واقع حريات مصادرة أو اعلان وفاة لأحلام مشروعة لن تلغيها اكراهات أو ابتزازات أو أحكام قضائية تلبست بالقانون والمؤسسات , والحقيقة أنها تعبر عن هاجس رسمي من المغاير والمختلف أو عن كفران سياسي وفكري بقيم الرأي الاخر وقيم العصر والدمقرطة ودولة الحق والحكم الرشيد... والى أن تصبح العودة الى تراب الوطن الغالي والعزيز سالكة بقيم العفو والصفح من قبل الجميع , مع امتلاك الارادة السياسية الشجاعة على تمتيع الجميع بمواطنة كاملة غير منقوصة...,الى ذلكم الحين أقول حفظ الله شعب تونس وشبابها من المنافي والسجون وكلبشات وأحكام بات العاقلون من حكام القرن الواحد والعشرين في غنى عنها... حرره مرسل الكسيبي بتاريخ 15 ماي 2010 - 2 جمادى الثانية 1431 ه . *كاتب واعلامي تونسي مقيم بألمانيا : [email protected]