كنت قد أشرت في مقالي ليوم الأمس الى الدوافع الحقيقية للمشاركة الفنية للرباعي محسن الشريف وسليم البكوش وعبد الوهاب الحناشي ونور الدين الكحلاوي في حفل مستعمرة ايلات , فهؤلاء "الدراويش" دفعوا ثمن رقصهم وغنائهم وتخمرهم على نخب تواصل المذبح الفلسطيني ... واذا سئل التونسيون اليوم عن مغزى نداء محسن الشريف بحياة الرئيس بن علي فوق تراب ايلات , فان الجواب سيكون حتما في مستوى مايمتلكه الشارع من وعي بغلبة الحاكم على المحكوم , فمديح الحاكم العربي جزية يدفعها المواطنون العرب بعد تحول أغلبهم الى أهل ذمة ! أما عن النداء بحياة نتياهو وبتحفيز من شخص همس في أذن "فنان الغلبة" محسن الشريف , فان الأمر لايخرج في تقديري عن رسالة سياسية مقصودة نجحت جهات تونسية في تمريرها على لسان مطرب تونسي يفتقد لأدنى درجات الحس السياسي , اذ ردد الأخير ماطلب منه أسياده مقابل الزيادة في العطاء والافساح في سوق عكاظ الفني ! محسن الشريف مرر على لسانه رسالة سياسية خطيرة , مفادها أن السلطات التونسية مطبعة للنخاع الى درجة التنويه بحياة بيبي وجعله قامة سياسية الى جوار اسم رئيس دولة عربية... قد يذهب البعض الى القول بأن ماذهبت اليه هو مجرد تخمينات ليس أكثر ..! , ولكن ماذا حين أضيف بأن وسيطا سياسيا تونسيا اتصل بمعارضين تونسيين قبيل أربع سنوات بالعاصمة باريس وأفسح لهم في أوهام العودة الامنة , بشرط المشاركة الفاعلة في مؤتمر تطبيعي شبه رسمي كان التخطيط جاريا له داخل حدودنا الوطنية... ؟! وماذا حين يؤكد معارضون اخرون على أن الوسيط وقع توديعه قبيل التوجه الى العاصمة باريس من قبل حاخام ...؟! واذا لم يكف ماذكرت دليلا قاطعا على أن ماحدث مع فناني الغلبة التونسيين , مجرد شجرة فنية بوقع اعلامي هائل يخفي حقيقة مافي الغابة , فانني أطلب من بعض المعارضين التونسيين ونشطاء حقوق الانسان الادلاء بشهاداتهم بخصوص المداولات التي وقعت قبيل سنوات بالعاصمة بروكسيل وبمقر البرلمان الأوروبي حول رصيد تونس في مجال الحريات وحقوق الانسان ... من الذي دافع عن السلطات التونسية ؟ , ومن طلب بغض البصر عن انتهاك السلطات للبند الثاني لاتفاق برشلونة ؟ , ماهي هويتهم وماهي انتمائاتهم وماهي خلفيتهم في استمرار قمع الحريات ؟... نفس المشهد تكرر أيضا وبشهادة معارضين تونسيين في باريس , في ندوات سياسية وأخرى حقوقية ... وفي نفس هذا السياق أكد لي رجال أعمال تونسيون قبل سنة واحدة على اضطرار بعضهم الى الاحتماء بعضوية المحفل الماسوني من أجل تأمين مصالحهم المالية في ظل خوفهم من الاشتباك مع أشخاص خارج سلطة القضاء والسلطة التنفيذية , ولكم أن تعرفوا خطورة أن يصبح المحفل طريق التونسيين لحماية الثروة... ربما يمنعني الحياء من ذكر تفاصيل أخرى , ولكن حين يبلغ الأذى مواضع الوطنية والكرامة , وحين يرقص لنساء المحتل وتقبل راقصاته طلبا للمال وتمريرا للغش في حياتنا العامة وترسيخا للفساد وتأبيدا للحكم وتأليها للحاكم والغاء لقيم الجمهورية كما نص عليها الفصل الأول من الدستور التونسي , حينها تجدني مضطرا للكلام وسط غابة كثيفة من الصمت المريب الذي فرضه علينا وضع التفاهة على أكثر من صعيد ... أؤكد من جديد على أن تونس ومنطقة المغرب العربي أنجبت يهودا أشرافا انخرطوا في معارك المجتمع المدني وأحلام الدمقرطة والعدالة الاجتماعية , ويكفي أن نذكر أسماء جورج عدة أو ابراهيم السرفاتي حتى يفهم القارئ مانقول , وأثني على ذلك بالقول بأن حماية الأقلية اليهودية وأماكن عبادتها واجب وطني مقدس لايزايد عليه الا فاسد العقل والدين , غير أن ذلك لن يبرر الانخراط في مسار التطبيع أو خيانة مصالحنا الوطنية أو بيع أشقائنا على أرض فلسطين أو لبنان ... ان العمق العربي والاسلامي لتونس ثابت خالد , وان انتماءنا الحضاري أكبر من حدودنا الجغرافية المقدرة ب165 ألف كم مربع , ومن ثمة فان شرعية الحاكم تتأسس على تحقيق الرضا الشعبي والانخراط في هموم المنطقة وتطلعاتها نحو الحرية والأنسنة والاصلاح والوحدة في عالم لايعترف الا بالتكتلات الكبرى.. واذا أرادت السلطات أن تختار طريقا اخر مشوبا بالتحالفات المشبوهة , وبالتنكص عن نضالات الاستقلال وشهدائه الأبرار , فان التونسيين سيعرفون كيف يرسمون طريق الاعتدال والتوسط والتسامح , ولكن ليس بثمن طعم الخيانة والدعارة الفنية والفضائح التي تجعلنا معرة وشنارا في محيط عربي واسلامي ودولي مطالب بالعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية والحداثة السياسية وضمان حق الشعوب في تقرير المصير ... والخلاصة أننا اليوم أمام مفترق تاريخي تونسي , فاما الاصلاح والمأسسة واحترام المواطنة وطي صفحة الماضي بكل مافيه من الام , أو أنه الطريق نحو الخراب الثقافي والسياسي والاجتماعي , ولكن ليس دون أن تدفع السلطة في نهايات نفق مظلم ثمن مقايضة عفنة تريد التمديد والتوريث بأفسد وأسقط مافي الزند والمتاع ... حفظ الله تونس , ودمتم مواطنين أحرار , في وطن شامخ حر ...