عبارة إعادة صياغة الشرق الأوسط نطق بها الرئيس بوش ووزيرته للخارجية قبل وبعد مذبحة قانا بنفس المعنى وكأن شيئاً لم يكن، بل وكأن العالم لم يتزحزح قيد أنملة عن هذا المخطط العجيب الذي اسمه الشرق الأوسط الجديد، في حين أن الصحافي القدير جون بيار كولمباني رئيس تحرير صحيفة «لوموند» وصف الاثنين الماضي هذا الحلم بأنه كابوس وبأنه ظاهرة مرض نفسي عضال لدى الإدارة الأميركية. وإذا ما صدقنا رايس فرضاً بأنها فعلاً كما تقول تريد حلاً لجذور الأزمة! فأين تقع هذه الجذور من منظورها؟ هل الجذور هي تواجد حزب الله في لبنان على حدود إسرائيل وتواجد حكومة حماس المنتخبة في فلسطين؟ أم جذور الأزمة منغرسة في التاريخ الحديث على مسافة ستين عاماً حينما تم ولأول مرة في التاريخ البشري إحلال شعب دخيل مكان شعب أصيل وتعويض أربعة ملايين فلسطيني عربي ما بين مسلم ومسيحي بأربعة ملايين من يهود الشتات من كل أصقاع الدنيا؟ هذه الفاجعة التي قال عنها المؤرخ الفرنسي روني كاليسكي في كتابه (العالم العربي)الصادر عام 1973 ليست لها في التاريخ سابقة وحتى لم يرتكبها لا جنكيز خان ولا هتلر! ان العلاج الجذري الذي تطالب به الإدارة الأميركية هو العلاج الخطأ، لأنه بكل بساطة يخلط خلطاً إجرامياً بين الأسباب والمسببات ولا يفرز بين الأسس والتداعيات. وفي هذا المسلسل الأميركي الجائر تجري المذابح المروعة التي لا تخدم مصالح الولاياتالمتحدة كما قال الثلاثاء الماضي زبيغنيو بريزنسكي الخبير الأميركي الشهير( في استجواب لصحيفة لو فيغارو الباريسية) لقد أدان المسؤول السابق عن الأمن القومي إدارة الرئيس بوش لأنها تتوغل في الطريق الخطأ وتهرب إلى الأمام مخلفة وراءها كوارث ليس من اليسير علاجها أو تصحيحها. فالرجل يقول ان واشنطن تراكم الزلات الخطيرة منذ احتلال العراق بدون خطة سياسية لما بعد الإطاحة بصدام حسين. وهي اليوم تطلق الذراع العسكرية العاتية الإسرائيلية ضد شعب لبنان من أجل الانتقام فقط لأن جيشاً نظامياً لا يمكن أن يهزم حرب عصابات شعبية كما هو الحال اليوم في لبنان مع حزب الله وفي فلسطين مع حماس، ثم إن إهمال التفاوض مع سوريا ومع إيران هو كذلك من باب العمى السياسي لأنهما حسب الجغرافيا والتاريخ شريكان أحببنا أم كرهنا. أما الشرق الأوسط الجديد الذي تريد رايس ولادته من رحم هذه المذابح فهو لا يوجد سوى في العقل الباطن للمحافظين الجدد الذين يهندسون مع الأسف السياسة الخارجية الأميركية الراهنة فقط بدافع القضاء على أي نفس رافض للظلم الإسرائيلي الساطع والداعي إلى استعادة الحق العربي لا من باب التطرف والمد الإسلامي كما يدعون بل من باب القانون الدولي الذي شرع المقاومة ضد الاحتلال وأعلن أن الأرض الفلسطينية أرض محتلة منذ حرب يونيو 1967. إن الشرق الأوسط الجديد هو الذي يستقر فيه السلام العادل بإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة والقابلة للبقاء لا تلك الشراذم من الأرض المقطعة الأوصال بجدار العار والذي أعلنت محكمة العدل الدولية بأنه مخالف للشرعية الدولية. والشرق الأوسط الجديد هو الذي تحدد فيه إسرائيل حدودها الدولية المقبولة عربياً ودولياً لا مواصلة احتلال الأرض بخلفيات توراتية مدلسة وتحت ذرائع أمنية واهية. والشرق الأوسط الجديد هو الذي تنخرط فيه دول حق وعدل ومؤسسات دستورية لا ذلك الذي تتحول فيه الجمهوريات إلى جملكيات تقمع فيها الحريات وتفتح أبواب المجهول وهو ما يغذي عناصر العنف والإرهاب والفتنة. إن كل العناصر الاستراتيجية تؤكد أن العرب اليوم على أعتاب صفحة تاريخية جديدة وبالفعل على أعتاب شرق أوسط جديد بعد مجزرة قانا المروعة على نقيض وأنقاض الشرق الأوسط الذي تخطط له أميركا وبأن الشعب اليهودي هو كذلك أمام امتحان حضاري رهيب ونحن نقرأ هذه الأيام أدبيات مفكرين يهود أصبحوا يخشون بقوة زوال دولتهم لأنها بكل بساطة يستحيل عليها البقاء محاطة بثلاثمئة مليون عربي رافض للإذلال والجور وبمليار وثلث المليار مسلم لن يقبلوا بعد اليوم مهانة حضارية والطرد من دائرة التاريخ. ان للتاريخ البشري سنناً ونواميس لا تستطيع الإدارة الأميركية بالانحياز الأعمى للتطرف الصهيوني تغييرها، وهي سنن ونواميس ثابتة مهما تحولت العصور وتعاقبت القرون، وهي أن الأمم التي تمر بمحن قاسية وزلازل مدمرة وتواجه البأساء والضراء هي التي تحقق النصر المؤزر. وهذا النصر الذي يراه الله قريباً ونراه بعيداً هو الذي سيولد بالفعل من رحم شهداء قانا وأوجزه رب العالمين في الآية 214 من سورة البقرة: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب». صدق الله مولانا العظيم.