لم يعد خافيا ان السيد سيف الاسلام القذافى اصبح لاعبا رئيسيا فى الحياة السياسية فى ليبيا وربما سيكون الرئيس الثانى لليبيا خلفا لوالده الذى اطاح بالنظام الملكى 1969 عام، واوجد نظاما بديلا تحت عناوين: الجمهورية، ثم الجماهيرية، واستطاع ان يستمر على قمة السلطة طوال سبعة وثلاثين عاما، وسوف يستمر مادام فيه عرق ينبض بالحياة. يجب الا ننسى ان جل النظم العربية السياسية تمثل ظاهرة (حكم العائلات) وحتى التى اختارت اثر انقلاب عسكري اسم (الجمهورية) حولتها الى جمهورية وراثية.وكل التطورات السياسية الجارية فى ليبيا منذ تسوية قضية لكوربى الى التخلى عن مشروع الاسلحة النووية الى اعادة العلاقات الليبية البريطانية، ثم اعادة العلاقات الليبية الامريكية، كانت تتم بمشاركة عملية مهمة من جانب سيف الاسلام، وقد عبر فى حديثه يوم 20 اغسطس 2006 ان دوره الحقيقى بدأ بمبادرة منه لفك الحصار عن ليبيا عندما فتح قنوات الحوار مع الغرب اي مع لندن وواشنطن، واعتبر تلك المبادرة هي مفتاح الشرعية لما جاء بعدها من مبادرات فى مجال عدة منها ملف حقوق الانسان، والانفتاح على عناصر ومجموعات من المعارضة فى خارج البلاد (ومن اهمهم مجموعة الاخوان) وهو انفتاح وتواصل فى عمومه ايجابي وان كانت نتائجه محدودة، ومنها عملية الافراج عن سجناء الاخوان، وتسهيلات الدخول الى ليبيا والخروج منها فى اجواء مريحة. وذهب سيف الاسلام الى ان تصريحاته ووعوده التى اطلقها يوم 20 اغسطس 2006 تقع فى اطار مبادراته الشخصية، واضاف بانه لم ينجز ما انجز لوحده بل بفضل فريق من الليبيين يعملون معه. ومن دلائل استعداده لدوره السياسي المقبل انه بدأ منذ عدة سنوات يبنى منظومة من الكوادر المتخصصة بفضل الغطاء المالى للجمعية الخيرية التى يرأسها والتى اصبحت مؤسسة تنموية اكبر حجما وتاثيرا، ومن تلك الكوادر البعثات التعليمية والتى يختار لها الطلاب الأكثر تفوقا فى دراستهم، ويتم ارسالهم الى الدول الأوربية الغربية، وربما الولاياتالمتحدة فى المستقبل، كذلك بدأ فى بناء شبكة من المؤسسات الاعلامية فى داخل البلاد سيتوجها باطلاق فضائية تعكس سياساته واحلامه ونوع الاعلام الذى سيلون ليبيا الغد. هذه المعطيات تعتبر مؤشرات كافية عن ملامح المرحلة السياسية المقبلة والتى ربما تستغرق بضع سنوات حتى تنضج وتصبح اكثر وضوحا اذا لم تحدث مفاجآت تختصر السنوات الى شهور او الى القليل من السنوات. ومن الملاحظ ان المهندس سيف الاسلام قد اطلق مجموعة من التصورات والوعود تعبر فى عمومها عن نبض المواطن الليبى وتتلاقى مع كثير من تصورات ومنطلقات المعارضة، لقد تبنى ضرورة وجود دستور، ومرجعية، وصحافة جيدة، كما تبنى مشروعات لمعالجة البنية الأساسية. وهو فى كل ذلك ينطلق من ثقافة ورؤية ليبيرالية متأثرا الى حد بعيد بدراسته فى المعاهد و الجامعات الغربية وبحواراته مع عدد من اهل الاختصاص فى اوربا التى يتردد على عواصمها ويلاحظ قدراتها التنظيمية والاقتصادية والاعلامية، وهذا الاتجاه الليبرالى وهو غير واضح المعالم حتى الآن يبدو هو الخيار الذى يريده لليبيا الغد مع من حوله من الخبرات الليبية، ومع الكوادر التى يجرى اعدادها. بهذه التصورات هو يطرح امام الشعب الليبى افكارا مغرية وجذابة مع التأكيد على القطيعة مع الماضى، والاتجاه نحو تحديث البلاد بدفع ومساعدة بريطانية / امريكية. وقد لاحظنا منذ اكثر من سنتين تدفق الوفود البريطانية والأمريكية على طرابلس، وهي وفود سياسية، واقتصادية، مع زيارات لشخصيات متخصصة فى الفكر التنظيرى كان آخرها، صاحب كتاب (الطريق الثالث) وهو المفكر البريطاني: انتونى جيدن... هذه الوفود، وتلك الشخصيات كانت تقوم بدور ترشيدي لإقناع العقيد القذافى ان يغير من بعض افكاره السياسية اذا اراد ان يلعب دورا ما، وكان سيف الاسلام احد القنوات المشجعة والوسيطة فى تحقيق بعض الأهداف الاقتصادية والسياسية التى تمهد لإخراج ليبيا من عزلتها الماضية الى مرحلة الانفتاح على الغرب والاستفادة من قدراته وامكاناته فى الاستثمار والتدريب وربما بعض المفاهيم والأطر السياسية، ومن يقرأ مقالة انثونى جيدن المنشورة بمجلة (نيوستيس مان) البريطانية تاريخ 28 اغسطس 2006 والتى نشرت مترجمة على موقع اخبار ليبيا، يجد بوضوح التعبير عن محاولات الاحتواء والدفع نحو تحديث ليبيا عبر عملية اقناع هادئة وربما طويلة المدى، وهي عملية ستمر عبر صراع قوي بين فكر وممارسة استمرا لأكثر من ثلاثة عقود، وبين افكار جديدة يتبناها سيف الاسلام ومن حوله لرسم ملامح ليبيا الغد، وهي ملامح ليبرالية، تبشر بها نخبة ليبرالية اغلبها من منتجات الجامعات الامريكية والبريطانية، وتجد دعما من قطاع واسع من الشباب الحديث المتأثر بثقافة العولمة وما تعكسه من بريق خادع فى اغلب الأحيان...كما انها تجد دعما امريكيا / بريطانيا من الخارج. المرحلة المقبلة من تاريخ ليبيا السياسى اذن ستكون مليئة بالأحداث والتطورات والصراعات ومن الصعب جدا التكهن بمسارات ومآلات تلك التطورات. والذى دفعنى الى مواصلة الكتابة عن مبادرات ومشروعات سيف الاسلام هو اهمية المسألة من الناحية النظرية والعملية، ومن ناحية الوعي باستشراف المستقبل والاستعداد للتعامل معه بالمواقف المناسبة وخاصة من الشبان والشابات فى داخل البلاد وهم الذين يعنيهم الأمر اكثر من الأجيال التى تقترب من الشيخوخة ومنهم جيلى وجيل العقيد معمر القذافى ورفاقه. ان مسألة الدستور ستكون هي جوهر اي تطور مستقبلي، وهي مسألة تتطلب قدرة على النظر نحو المستقبل القريب والبعيد. ان ما كتب ونشر حتى الآن حول المراجعات والتطورات والصراعات ليس كافيا، والمسألة تحتاج الى المزيد من النظر والبحث والاتصال بما يجرى ومعرفة ما يجرى من الأمور المهمة لكل ليبي وليبية فى داخل الوطن وخارجه. سيف الاسلام فتح الطريق باطلاق المزيد من النيران على المفسدين والعصابات التى تكونت وتغولت فى مناخ ملوث وفى ظل سلطة الشعب واللجان الثورية والشعبية ومؤتمراتها الأساسية، وعلى مرأى ومسمع من جميع القيادات الفعلية الحاكمة فى ليبيا لأكثر من ثلاثة عقود. بعض المراقبين، وبعض المحللين اعتبرو ما قاله سيف الاسلام هو بالاتفاق الكامل مع والده، وهو ليس سوى لعبة لإلهاء الليبيين، وهو فى احسن الأحوال كلام وخطاب للخارج، وخاصة الولاياتالمتحدة. ويبدو لى ان ما حدث وما سيحدث فى المستقبل القريب لم يكن مجرد مناورة سياسية بمناسبة الذكرى السنوية للثورة، ولكنها بدايات تغيير فعلي بطيء الحركة لأن تركة الماضى تركة ثقيلة بلجانها وفسادها واخطبوط شبكات المافيات المتعددة الولاءات... بعض ما نتمناه ان تبنى عملية التحديث بمن سيقودها على اسس تبدأ بوضع دستور للبلاد باسلوب ترضاه وتقبله اغلبية الشعب الليبى، وباختيارها الحر وعلى مسمع ومرأى من العالم ومنظماته المعنية، وان تكون خطوة الدستور هي البداية الصحيحة لدولة القانون، واخيرا ليس المهم من سيحكم ليبيا، بل المهم كيف يحكمها، ويبسط العدل فى ربوعها، وينتقل بها من حال الفساد والتخلف والفوضى، الى حال الشفافية والحداثة الايجابية، والاستقرار والرفاه الاقتصادى وادارة شئونها بمؤسسات تديرها عقول ليبية مهنية وأمينة، وبلادنا ورغم كل الفساد الذى حل بها ما تزال تختزن قدرات بشرية نظيفة ومؤهلة لإحداث التغيير الايجابي اذا وجدت فرصتها للعمل والبناء. *نشر المقال بليبيا النستقبل + صحيفة الوسط التونسية 31 أغسطس 2006