(1) تحرص كل الأمم على ترسيخ ثقافتها ولغتها وعاداتها وتتفاخر بتقاليدها وفنونها وتعد المعارض السنوية لعرض ثقافة الشعب وأصالته عبر الكتاب واللوحة الفنية والموسيقى والرقصات الشعبية وغير ذلك، كما تشيد المتاحف لتعرض فيها التطور الحضاري للأمة عبر قرون من الزمن. في خليجنا العربي اقتفت دولنا حديثة الاستقلال من الاستعمار البريطاني ما ذهبت إليه الأمم من ترسيخ ثقافة شعوبها وراحت حكومات هذه المنطقة من العالم العربي تكرس عاداتها وتقاليدها، فشيدت المتاحف وأمعنت في الحفريات بحثا عن تاريخ الاباء والأجداد بدءا من عمان إلى دولة الإمارات العربية المتحدة مرورا بقطر والبحرين وانتهاء بالكويت. وأثبتت كل الحفريات ارتباط هذه المنطقة من عالمنا العربي بعمقها العربي ابتداء من حضارة حمير إلى بنو كندة إلى حضارة مابين النهرين وحضارات بلاد الشام. في دولة قطر هذه الأيام عودة إلى الماضي، عودة إلى الجذور. فعادت نبتة الشفلح إلى الحياة وعادت كلمة ميزة المعيشة وكلمة كروة أجرة وكلمة بروة وثيقة ملكية الشيء إلى الحياة اليومية بعد ما نسيها الناس أو يكادون، واحسب إن ذلك الاهتمام يعود الفضل فيه إلى أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة أل ثاني وال بيته الذين يحرصون كل الحرص على التمسك بالأصالة والنقاء. (2) رغم كل هذه الجهود المنيرة في عالم خليجنا العربي إلا إن هناك أمرا جللا يكاد يؤدي بعروبة منطقة الخليج وإسلامها، والناس عما يحدث غافلون أو متغافلون وصانع القرار قد لا تكون بين يده تفاصيل ما يحدث وأخطاره على الأمن القومي والسيادة الوطنية وعلى مستقبل الأجيال القادمة. استأذنكم ولاة أمرنا حفظكم الله ورعاكم من عاديات الزمان في أن اطرح أمامكم ما أخافه على مستقبل هذه المنطقة الهامة من الوطن العربي في نقاط محددة وهي: - ثمة توجه جامح حول تعميم اللغة الانجليزية في مدارس منطقة الخليج وجامعاتها وذلك على حساب اللغة العربية والعلوم الشرعية، في الوقت الذي تحرص فيه الولاياتالمتحدة على تعميم إجبارية اللغة الانجليزية الأميركية في كل مناحي الحياة. وقد اصدر مجلس الشيوخ الأميركي تشريعا مؤداه "إن اللغة الانجليزية هي اللغة الرسمية في الولاياتالمتحدة (نيويورك تايمز 19 مايو 2006)". ومعنى ذلك إن لغة التعليم في كافة ارجاء الولاياتالمتحدة تتم باللغة القومية وان لغة التخاطب الرسمية والمرافعات القضائية وما في حكمها تكون باللغة الوطنية. - التعليم العام هو الأساس للتنشئة الوطنية والقومية والدينية وفي هذه المرحلة يتم التركيز على تاريخ الوطن وتراثه ودوره في الحضارة الإنسانية. - التعليم العام في خليجنا يكاد أن يسقط مواد التنشئة الوطنية واعني بذلك إسقاط العلوم الاجتماعية من الاهتمام بها في مراحل التعليم العام ناهيك عن الجامعات الخليجية. - فرنسا ترفض التخاطب باي لغة غير الفرنسية وتمنع أي مندوب فرنسي في أي وكالة او منظمة دولية من الحديث بغير اللغة الوطنية. حتى في المطاعم العامة فان قائمة الطعام لا تكون بغير الفرنسية. ليس ذلك فحسب، ولكن الدولة الفرنسية شكلت شعبة خاصة في وزارة الداخلية تتقصى أخبار المهاجرين ويحظر عليهم التخاطب حتى في منازلهم بغير الفرنسية وإذا ضبط احدهم مخالفا لهذه التوجيهات فانه يخضع للمساءلة القانونية، ليس ذلك فقط ولكنها تمنع الأفلام السينمائية الناطقة بغير الفرنسية من العرض في دور السينما الكبرى. (3) في خليجنا خطر لا يضاهيه خطر. فخطر الاستعمار يمكن مقاومته والانتصار عليه، وخطر العدوان يمكن التصدي له بإرادة وطنية، لكن خطر ضياع الهوية واندثار اللغة القومية وانحسار العقيدة الإسلامية ليس من السهولة مواجهته واستعادة ما ضاع منها. ونضرب لكم أمثالا من تجارب الشعوب. فشعوب أميركا اللاتينية فقدت هويتها القومية عندما سادت الثقافة واللغة الاسبانية وكذلك دول جنوب الصحراء الافريقية الذين سادت بينهم اللغة الفرنسية أو الانجليزية فلم يعد لهم هوية يعتزون بها وتاريخهم أصبح تاريخ المستعمر الذي سادت لغته وثقافته. إنني من دعاة تعلم اللغات الأجنبية وإتقانها ولكن لا يكون ذلك على حساب لغتنا وحضارتنا وديننا الحنيف ولا يكون على حساب الانتماء الوطني والقومي وعلى حساب أمننا وسيادة بلداننا العربية. (4) الخطر الذي يواجهنا إلى جانب تسييد اللغة الأجنبية الانجليزية في التعليم العام والجامعي وخطر المربيات الذين يؤثرون على لسان الطفل في مهده ومن في حكمهم وكذلك انتشار الممرضات والممرضين الناطقين بغير العربية. خطر أخر هو انتشار ظاهرة أئمة المساجد ومؤذنيها من غير العرب. العربي لا شك بأنه يستعذب الصوت الجميل وقد يكون أكثر اندفاعا نحو المسجد إذا سمع مناديا ينادي للصلاة ذا صوت جميل بحروف عربية واضحة، وقد يكون أكثر إحساسا بالإيمان إذا استمع إلى إمام يحسن ترتيل القران ويترنم به. قد يكون من بين غير العرب من يحسن تلاوة القران ويترنم به ولكن زلات اللسان الأعجمي كثيرة وواقعية وملاحظة من كثير من المصلين. اضرب مثلا بإمام مسجد غير عربي في صلاة جهرية قرأ سورة الزلزلة فيعتوج لسانه الأعجمي فيقول "إذا ذلزلة الأرض ذلزالها" بدلا من القراءة الصحيحة "إذا زلزلة الأرض زلزالها". هذا مثال أسوقه لولي الأمر في منطقة الخليج وأقول إذا تعودت أذن الطفل على صوت مربية أعجمية وأستاذ يدرس بلغة غير عربية وتلفاز يعرض أفلاما كرتونية أجنبية وإمام مسجد أعجمي ومناد للصلاة يقلب حرف ألحاء هاء، كقوله "هي على الصلاة هي على الفلاح" بدلا من القول الصحيح "حي على الصلاة حي على الفلاح" فأبناؤنا في خطر. والكارثة تكبر عندما يكون خطيب الجمعة ليس منا نحن العرب يروي تاريخنا من على منابر المساجد بلغة ركيكة ومعلومة تاريخية ناقصة تؤدي إلى عكس ما هو مطلوب أو تناول قصة وردت في القران الكريم "عن امرأة نوح وامرأة لوط" (سورة التحريم أية 10) وراح يغوص في سرد القصة التي قد تقود إلى نتائج لا يقبلها إسلامنا الحنيف ويتناقلها عنه جيل فاقد الهوية لفقدانه ناصية اللغة العربية. اعلم حق العلم إن الكثيرين من دول مجلس التعاون الخليجي وكذلك مصر والأردن قد أقالت أعدادا من الخطباء والأئمة والدعاة من وظائفهم واستبدلتهم بغير الناطقين بلغتنا أو بموظفين أشباه متعلمين قد يكون بعضهم محسوبا على جهات أمنية ليتجنبوا هجمة أميركية إعلامية على هذه الأنظمة وإمعانا في ما يسمى محاربة التطرف الإسلامي. لكني أقول ما هكذا تورد الإبل يا سعد! إني أنبه ولاة أمرنا إلى إن ظاهرة خلو معظم مساجد دول الخليج العربي من المؤذنين والائمة العرب وخطباء الجمعة سيزيد في الاغتراب عن الهوية العربية والإسلامية وسيسهل اختراق هذا المجتمع من قبل الأعداء في الأجل المنظور. أخر القول: اللهم اشهد إني قد بلغت. د. محمد صالح المسفر جامعة قطر