كل من يشاهد الشريط الذي أعدته اللجنة الدولية للدفاع عن المساجين السياسيين في تونس ، لابد أن يدور في ذهنه السؤال التالي : إلى أي مدى ستستمر هذه المأساة الإنسانية ؟ وبصرف النظر عن التوازنات السياسية التي لها حساباتها الخاضعة لمنطق التجاذب والتنافر بين القوى ، فإن أهمية الملف لا تعد تحتمل الانتظار ... و لا بد أن يعمل العاملون من أجل طي هذا الملف ، بعد أن أصبح يمثل أولوية الأولويات في نظر الجميع ، سواء داخل أوساط الحركة الإسلامية التونسية أو خارجها ، و لا شك أن السبل التي تقود إلى تحقيق هذا الهدف ستختلف من جهة إلى أخرى طبقا لالتزاماتها السياسية و خلفياتها الفكرية ودرجة حماسها للقضية ، بيد أنها جميعا ستجتهد لتضع الكرة في ملعب السلطة و تنتظر قرارا سياسيا جريئا ينهي هذه المأساة . بعض هذه القوى سيركز جهوده على ممارسة الضغوط السياسية و الإعلامية بمختلف أنواعها لدفع السلطة إلى اتخاذ مثل هذا القرار ،وبعضها الآخر سيعمل في حقل آخر ليحاول فتح قنوات الحوار وبناء الجسور و تليين الخطاب و محاولة تفهم شروط السلطة والتفاعل معها بإيجابية وبذل الجهد من أجل إدراك خصوصياتها ومصالحها ، لكن حتى يتحقق الهدف لابد أن يحصل تكاملا وانسجاما بين هذه الأطراف حتى لا تتقاطع الإيرادات فتحصل الانتكاسات بتباعد القلوب وانفراط الجمع وتصدع الجماعة . فتلك و إن كانت هدفا طبيعيا للخصوم السياسيين فإنها يجب أن تكون خطوطا حمراء لكل العاملين المخلصين ... قد يطغى الحديث عن المساجين والمحاصرين و المنفيين باعتبارهم مظاهر مأساة إنسانية طال أمدها بيد أن المشكل في حقيقته قضية سياسية بامتياز لا يمكن أن تحل إلا في إطار تباشير توازن سياسي جديد يقطع مع معادلة الاستقطاب الثنائي سلطة مقابل حركة إسلامية و يهيئ الشروط لإرساء معادلة جديدة في تونس تقوم على سلطة مهابة ومحترمة و معارضة تقوم بدورها في حفظ التوازنات و منع التجاوزات وحماية المجتمع من أخطار الهيمنة والتسلط . و لا شك أن الكثير من الإشكاليات السياسية ذات الدلالة القطعية توجد خارج أسوار الوطن متمثلة في نتائج الانتخابات التي تجري هنا وهناك وتعطي للإسلاميين نفوذا متزايدا أو تبشر به ، وكثيرا ما كانت هذه النتائج الانتخابية التي يحققها الإسلاميون في الخارج دافعا قويا استمرار أطراف في السلطة التونسية على مزيد التحريض على إسلامييهم في الداخل و إذكاء سياسة الحصار تجاههم باعتبارها ضريبة ضرورية لحفظ الاستقرار وتواصل معركة التنمية الاقتصادية و تثبيت خيار الديمقراطية و حماية البلاد من أخطار المجهول على حد قولها ... و لا شك أن السلطة من حقها أن تمسك بمقادير الأمور في بلدها ،و من واجبها أن تحافظ على الأمن و الاستقرار وتوفر شروط التنمية و التعايش السلمي و تفعيل مؤسسات الدولة وضمان نشاطها الدؤوب ..وقد تقع هذه السلطة في تجاوزات ويرتكب بعض أطرافها جرائم و هنا يأتي أحد أدوار المعارضة التي عليها أن تتصدى لهذه التجاوزات حتى لا تتكرر و تقف ضد هذه الجرائم حتى يقع مقترفوها تحت سلطة القانون ، ولكن دور المعارضة لا يجب أن يتوقف عند حد الاحتجاج أو توظيف مظاهر الاستياء و الغضب لصالحها بل يتجاوز ذلك إلى العمل على إرساء ثقافة المواطنة و الانضباط و حب النظام و كراهية الفوضى , و تأسيس معارضتها على الدعوة لبرامج بديلة أو مساعدة من شأنها أن تدعم مصداقيتها لدى الناخب و تفرض احترامها على الحزب أو الأحزاب الحاكمة ... و الظاهر أن السلطة التونسية لم تقتنع بعد بأن المعارضة الإسلامية يمكن أن تشكل معارضة وطنية بالمعنى الذي أشرنا باقتضاب إليه ، بل بالعكس هي تعتقد أن هذه المعارضة لا تضيف شيئا في مجال البناء لكنها حمالة لبذور التفرقة و الفوضى و تهديد الاستقرار و أنها لا تمارس نشاطها على أساس مشاريع متكاملة وبرامج سياسية مفصلة بل ترفع شعارات جذابة و تستغل عواطف دينية متحمسة و تبشر بآمال لا تعرف هي ذاتها على وجه التحديد كيف ستتحقق . وتجد هذه السلطة فيما يجري في البلاد المشابهة التي اعترفت بالحركات الإسلامية ما يؤكد وجهة نظرها تماما مثلما يجد الإسلاميون التونسيون في ذلك ما يؤكد وجهة نظرهم . فنحن هنا أمام قراءتين متناقضتين لنفس الحدث ، وهو ما يمثل على الأرجح جذور" المعضلة التونسية" التي تستعصي على الحل خاصة و أن الطرف القوى فيها لا يبدو مستعجلا لحلها اليوم كما كان دائما ، أما الطرف الأضعف في نظر السلطة ، فلا زال محافظا كما تقول على طبيعته الأولى التي نشأ عليها، و لا زال يمارس نفس الخطاب الذي ينشر بذور الفتنة ويحاول أن يستغل كل ما يتسقطه من مساوئ ليدعو لها .. و ما دامت مؤسسة الرئاسة محكومة في تعاملها مع الحركة الإسلامية بالصورة التي كونتها عنها أثناء مواجهة بداية التسعينات فستبقى غير قادرة على اتخاذ القرار الحاسم الذي من شأنه أن يفتح صفحة جديدة في تاريخ تونس ألا وهو إعلان العفو التشريعي العام لأن الأوضاع الحالية تبدو مريحة بالنسبة لها و لأنها نستطيع أن تعتبر أن المأساة الإنسانية التي يعيشها الآلاف من الإسلاميين المسجونين و المحاصرين و المنفيين ضريبة يجب أن تدفعها البلاد من أجل حماية استقرارها . و على الإسلاميين أن يثبتوا أنهم فد تغيروا في الاتجاه الذي يجعلهم لا يشكلون خطرا على التوازنات القائمة في البلاد بما تمثله من شرعية و مصالح و مناطق نفوذ و أشياء أخرى ، حتى تميل الكفة لصالحهم وتعترف الدولة بحقهم المشروع في العمل إلى جانب الأطراف الأخرى و ليس ذلك في الحقيقة رغبة شخصية من أحد بحرمانهم من حقوقهم ، بما في ذلك رئيس الدولة زين الدين بن علي ولكنه التعبيرة الأساسية للموازين السياسية القائمة ، ولا أظن أن هناك فائدة تذكر بالقفز عليها بأساليب دعائية و إعلامية قد تبدو نوعا من النواح و التشكي أكثر من كونها عملا سياسيا يسعى من أجل تحسين قدرته و تحقيق شروطه ضمن إطار الممكن ... و نأمل أن نكون بما تقدم ذكره قد شرحنا بعض جوانب الصورة التي يتحرك ضمنها بعض الوجوه التي تريد أن تشق طريقها وسط الزحام و أن تفعل شيئا لأولئك المعذبين من إخوانهم الذين لم يعد لأبدانهم ما يساعدهم على الصبر و أن تعلقت به هممهم و إراداتهم ،و بعد أن وصلت هذه المجموعة إلى قناعة مفادها أنهم يدفعون ثمن سوء التفاهم بين الأطراف الفاعلة و أن أطرافا في السلطة لا يعرف على وجه الدقة حجمها أصبحت مقتنعة بأن المأساة الإنسانية يجب أن تحل ، لكن حلها ما زال يصطدم بمخاوف ذات بعد سياسي .وبالتالي فإن العمل من أجل مد جسور الثقة بين الإسلاميين و أطراف من السلطة على الأقل من شأنه أن يخفف من هذه المخاوف و قد يفتح الطريق أمام شكل من أشكال التطبيع يكون إن شاء الله في مصلحة تونس و شعبها ... 3 لا نريد أن نأخذ مكان أحد لا تريد أن تأخذ هذه المجموعة مكان أحد في جبهة النضال من أجل تحقيق هذا الهدف و تقدم نفسها على أنها تقوم بدور من جملة الأدوار و لا تتعلق بأي أوهام لأنها تدرك درجة تعقيد الملف و كثرة الأطراف الفاعلة فيه . و مثلما بين الأخ مرسل الكسيبي في مقاله الأخير على صفحات الوسط و تونس نيوز فلا يتعلق الأمر بأي تنازل عن المبادئ و تخل عن الأهداف التونسية المشتركة في مقاومة اتجاه الديكتاتورية و إرساء دولة القانون و ديمقراطية ، فقط هناك التخلي عن أسلوب اللعن و السباب و الشتيمة و التكفير و اعتماد أسلوب الحوار الهادئ مع الخصوم الذي يحترم وجهة نظر الآخر مهما كانت عظمة خطئها في نظره ، و الدفاع عن مطالبنا بكل مصداقية بعيدا عن التهويل و التعميم الذي يقصد به التحريض و الإساءة ، و في مجال العقيدة و الدين تبتعد عن النزعة" الطهورية " التي تريد أن ترغم الناس على عمل ما تعمل أو قول ما تقول باعتباره رأيا أجمع عليه السابقون و يجب أن يقدسه اللاحقون و تترك لأهل الاختصاص الرد على أصحاب الفتاوى الجديدة و الآراء الغريبة خشية أن تقع في مطب تكفير أو تنفير ، 3 على طريق بناء الجسور تدرك هذه المجموعة أن عملية توظيف الصحوة الإسلامية بالجملة في العمل السياسي دون مشروع متكامل وبرنامج سياسي مفصل ، يحتوى على مخاطر كبيرة على الدولة و المجتمع في تونس و هي في ذلك قد تلتقي مع أطراف في السلطة للعمل على تجنب هذه الأخطار عن طريق ابتكار أسلوب أمثل يضمن عدم تسييس الدين و لا يحرم المتدينين في نفس الوقت من العمل السياسي و لا يمكن ذلك إلا بحزب مدني ذو مرجعية إسلامية نعرف مشروعه السياسي و وسائل عمله و شفافية موارده و وضوح أساليبه . و تعتقد أن هذا الأمر لو تحقق لتقدمت البلاد خطوات متسارعة على نهج الديمقراطية و دولة الحريات ، نرى أن المجتمع التونسي أهل لمكان الريادة فيه . و على هذا الأساس فإننا لا نتأخر في إظهار الاعتزاز بالمكاسب التي حققتها بلادنا في المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و التربوية ، و لا نتردد في الافتخار بالمستوى الطيب الذي عليه التونسيون وما يمتلكونه من خبرات و كفاءات جعلتهم يقومون على مؤسسات دولة تعمل و تنجز البنى التحتية اللازمة و تقوم بعملية تحديث متواصل لهياكلها و مواردها وليس هذا استنقاصا من مكاسب الآخرين و لكنه اعتزاز بالانتساب لهذا الوطن حتى و نحن معارضون منفيون لا نعرف متى سيتيسر لنا وطء ترابه . لا يعني ذلك أننا سنتوقف عن الكتابة عن مظاهر الأزمة في كل تجليانها و لكن بشرط أن يكون لنا تصور لسبل التغلب عليها حتى لا يصبح حديثنا دون فائدة .و عندما يدعو الرئيس التونسي بن علي إلى الكف عن هتك الأعراض في الصحافة لا يسعنا إلا أن نثمن ذلك و ندعو الإعلاميين التونسيين إلى وضع هذا النداء موضع التنفيذ لأننا نعلم جميعا خطر ثقافة المراحيض على مجتمعنا و قد اكتوى بنارها إخوان لنا و أصدقاء في المعارضة و ندرك كم هو مهم أن يتناول رئيس الدولة هذا الأمر بمناسبة حلو ل شهر رمضان ، و كم نحن في حاجة إلى سحب الغطاء السياسي على مجرمين ظنوا أنهم بهذا الأسلوب الخسيس يمكن أن يتقربوا إلى الرئيس ... 5 مصافحة للأخوين العداسي و الكسيبي إن كان هناك أصحاب أقلام نحسبهم من إخواننا لا تعجبهم هذا النبرة في الكلام أو هذا الأسلوب في الكتابة فليس لنا إلا أن ندعو لهم بالتوفيق في الطريق الآخر الذي انتهجوه فقد نكون على خطأ ويكونون هم على صواب ، و من هؤلاء الأخ عبد الحميد العداسي الذي ذهب بعيدا في إعلان القطيعة معنا ملمحا إلى أننا جماعة من المداحين و الوصوليين الباحثين عن القربى من ذوي السلطان و من يدور في فلكهم ، وهي نفس التهم التي يتعجل الأصدقاء القدامى في كل عصر ومصر التراشق بها بما يشق صفوفهم و يذهب بريحهم . والله يقول ": وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين" و إن كان الأخ العداسي لا يصبر على خلاف في وجهات النظر مع أحد العاملين في نفس الإطار النضالي الذي ينشط فيه و يقول أنه لو خير بين برهان الذي يعاديه و مرسل الذي يقف معه على نفس الجبهة دون أن يسميه طبعا ولكن القراء سيعرفون ذلك بسهولة لاختار الأول و نبذ الثاني فإنه يعبر بذلك عن قلة سماحة وضيق صدر ليس من شيم العاملين في الحقل السياسي و إن كان يقول أنه لا يتحدث سياسة . وأن وجهنا سؤالنا إلى الأخ مبروك الطرابلسي الذي ساهم المرسل الكسيبي في فك الحصار عنه اليوم 26 سبتمبر 2006 عن النهج الأقوم في الدفاع عن المحاصرين: نهج العداسي أو نهج المرسل .. فلا نشك أنه سيختار الثاني بعد أن جرب الأول فلم يزده إلا تضييقا و بؤسا ... ونسأل الله أن يكون الإجراء الذي أخذته الرئاسة في حقه بشرى خير لجميع إخوانه في السجون وخارجها . اللهم آمين