نحن نعيش اليوم في دولة مركزية قوية ومتماسكة ومستقرة ، يحكمها حزب حاكم يستلهم شرعيته من دوره التاريخي وتداخله مع الدولة وأجهزتها وتحالفه الاستراتيجي مع السلطة ويتمتع بإمكانات ضخمة وقدرة دعائية عالية وآلة انتخابية كاسحة وآلاف من الجمعيات والتنظيمات المنضبطة التي تعمل تحت ظلّه » وتأتمر بأوامر السلطة . كما أننا نعيش اليوم في دولة يحكمها نظام رئاسي قوي وممركز ومشخص وذو طبيعة أمنية قوية ... النتيجة المنطقية والمرتقبة لهذا الواقع هو انحسار المشاركة السياسية على أوسع نطاق ، فالأحزاب السياسية منقسمة ما بين فريق موال للسلطة ، مؤتمر بأمرها وفاقد للاستقلالية والمصداقية ،وفريق ثان يدافع باستماتة عن استقلالية قراره ويحمل هموم الإصلاح الديمقراطي ويرفع شعارات قوية للتغيير، لكن دون أي تجذر في الأرض وجمهوره نخبوي. أما المنظمات العريقة والجماهيرية و المهنية فتأقلمت مع الوضع القائم والتزمت مكرهة أو طيعة للاكتفاء بدور مطلبي ضيق أو مهني محدود. ونتيجة لهذا الوضع شهدت البلاد أيضا عزوفا كلّيا للشباب عن المشاركة السياسية أو المساهمة في الحياة العامة أو الانخراط في الجمعيات الأهلية أو في تحمل مسؤوليات وهموم المجموعة الوطنية. وأدى هذا التدهور في الحياة السياسية إلى بروز حياة سياسية موازية تتسم إما بالتطرف أو التشنّج أو التبسيط المفرط للوضع القائم وتعويض المشاركة الفعالة بنقل واستهلاك الإشاعات و الحكايات والروايات الشعبية . إن استمرار هذا الوضع على ما هو عليه يشكل أكبر تحدّ للسلطة وللمعارضة على السواء يمثل تهديدا في خطيرا لاستقرار البلاد. إن الإصلاحات الكبرى التي عرفتها البلاد منذ ما يزيد عن نصف قرن تدفع بطريقة تدريجية نحو اكتمال البنية الأساسية للانتقال الديمقراطي. إلا أن تخلف الإصلاحات السياسية عن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية يهدد هذا المسار برمته . لذلك فإن مسألة الانفراج بوصفها مدخلا رئيسيا لدفع مسار الإصلاح السياسي تبدو اليوم مسألة حساسة وعاجلة وضرورية لتعزيز الدولة الحديثة وبقائها ونمائها. الانفراج اليوم وفي ضو ما آلت إليه الأمور،كما ذكرنا يعتبر مطلبا عاما انعقد حوله إجماع وطني و الانفراج محطة مهمّة وبنّاءة ولها نتائج ملموسة وجوانب إنسانية لا يستهان بها وخاصة منها إنهاء معاناة المساجين السياسيين. ومع أن مغانم الانفراج متواضعة على المستوى السياسي إلا أنها استراتيجيا تعتبر مكسبا وطنيا لأنها تؤسس لمرحلة جديدة تفتح أفقا أوسع للحريات والمشاركة والانتقال الديمقراطي السلمي والهادئ و الحضاري. الانفراج لا يأتي بطريقة عفوية وليس هبة من السلطة بل نعمل على تحقيقه كل من موقعه وبالتحالف مع الأطراف المقتنعة به ومن خلال الموقف السياسي السليم والرؤيا السياسية المستقبلية ومصلحة البلاد العليا. إن توفقنا للانفراج ليس صفقة مطلوبة مع السلطة و لاهدنة ظرفية ولا مقايضة محتملة . إنه تمشّ سياسي تمليه التحديات الداخلية والخارجية المطروحة على البلاد كما تمليه تراكمات الماضي النضالية والتجارب السابقة ويبرره مشروعنا السياسي الإصلاحي. الواقع اليوم هو أننا لم نضعف إلى درجة أن تفرض السلطة علينا إرادتها، ودافعنا وبكفاءة واقتدار ومصداقية على استقلاليتنا وحقوقنا. وفي المقابل لم نقو إلى درجة التصدي لمشاريع السلطة أو لإجبارها على التخلي عن سياسات معينة أو حتى على التفاوض بشأن قضايا وطنية. قد نكون في بعض المعارك هزمنا بالنقاط ولكننا لم نرم المنديل ولم تكسب السلطة معركة الوعي لثنينا عن التمسك باستقلالية قرارنا. من هذا المنطلق فإن الانفراج يشكل مخرجا طبيعيا للجميع من علاقة متوترة ومتشنجة دامت سنين وكان الخاسر الأكبر فيها البلد وتطلعات شعبا وتوقا للحرية. لذلك ونحن نستقل سنة سياسية جديدة و لربما مرحلة سياسية جديدة وأمام تنامي مؤشرات التوتر الاجتماعي الخطر واستشرافا للصعوبات الجمة التي ستواجه اقتصادنا الوطني سنة 2008، نظرا لسرعة التقلبات الدولية وحجم تأثيرها على المنطقة فإن كل الأطراف السياسية والسلطة والمجتمع المدني مدعوة للتحرك نحو الانفراج من أجل دفع مسار الإصلاح في الاتجاه الصحيح وخلق مناخ سياسي تكون فيه البلاد أكثر مناعة وقدرة على امتصاص الصدمات والتقلبات الدولية . لقد أثبتت الحلول الأمنية محدوديتها وفشلها وحجم مضاعفاتها الثانوية على كل جوانب الحياة . كما برزت للعيان محدودية المواجهة الشعاراتية وعدم فاعليتها في دفع مسار الإصلاح . إن إعادة إنتاج ظرف سياسي قاس يختزل البلاد في استقطاب ثنائي مشوه للحقيقة بين سلطة "حريصة على المصلحة العليا" ومعارضة "لقيظة وغير مسؤولة " يدفع بها نحو المجهول والعنف والتمرد ويقوض الاستقرار الثمين . نستطيع أن نتفهم التمشي الحذر والتدريجي في الإصلاح وهو أمر محبذ. ولكن الحذر ليس الجمود والتدرج ليس الالتفاف على المطالب والمماطلة. يقول المثل العربي "لاينال المنى من قدّم الحذر". تتطلع المعارضة للانفراج كهدف مرحلي قريب وممكن والقبول بالانفراج كهدف مرحلي ضمن تمش سياسي صادق وواضح ومنسجم ،ليس تفريطا في تطلعاتنا وتنازلا عن مبادئنا وأهدافنا العليا. يجب أن لا ننظر للانفراج فقط من زاوية الصراع الحالي مع السلطة وعدم تكافؤ موازين القوى بل علينا النظر إلى المسألة من باب تحريك مسار الإصلاح المتعثر ودفعا في الاتجاه الصحيح وتعزيز موقعنا للتأثير فيه بشكل أفضل ،إنني على أمل أن تتوفر هذه السنة للبلاد فرصة ثمينة لتأهيل الحياة السياسية ورد الاعتبار للمشاركة و إحداث انفراج حقيقي يرفع الضيق عن الناس ويبعث الأمل لأن الوضع لا يتحمل مزيد من الغموض والجمود ومزيدا من انسداد الأفق وغياب الفرص . أن نراهن على الانفراج يعني أننا نراهن على نضج المعارضة وعلى مسؤولية السلطة ووعيها بضرورة التعجيل بخطوات انفراجية . أنه اختيار سياسي للجميع ، نتحمل كلنا فيه المسؤولية أمام شعبنا وأمام التاريخ . قد يتبادر لأطراف في السلطة أن المرحلة القادمة ستكون اقتصاديا قاسية واجتماعيا غير مأمونة ولذلك سيشكلون صوتا قويا لمزيد الانغلاق والتحكم في حرية الناس . كما سوف نجد من المعارضة من يراهن على تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والضغط الخارجي للترويج للمواجهة. طبعا ستقف هذه الطروحات في وجه أي دعوة للانفراج ، لكن لهؤلاء وأولئك أقول إن الانفراج يحقق أهدافا عديدة ومكاسب جمة للجميع سلطة ومعارضة: فهو ينعش الأمل ويرفع الإحباط ويجسر الهوة بين الدولة والمجتمع المدني. وهو يشجع ثقافة المشاركة و يقلّص من ترك الأمور تسير نحو ردود أفعال غير مدروسة. ويعيد الاعتبار للمنافسة السياسية ويحسن ظروفها ويلغي اختزال العمل السياسي في مواجهة أمنية عقيمة . ويمكن كل الأطراف من التفرّغ لتطوير رؤيتها السياسية والابتعاد عن المواجهة الشعاراتية . ويجنب وقوع البلاد في فوضى ردود الأفعال والعنف والتطرف . يوسع هامش الحرية بعيدا عن أملاءات خارجية مشبوهة. يدفع البلاد نحو مزيد من الانسجام بين الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهو ما يقلّص من كرب المرحلة الانتقالية ويقوي الاعتزاز بالوطن خاصة لدى الشباب ويرجح الأمل في العملية السياسية كأداة تنويه فعّالة . يبعث بإشارة قوية ومحفزة للمستثمرين للسوق وللطبقة الشغيلة وهو ما من شأنه تحسين نسب الاستثمار والنمو الاقتصادي. يبشر بمجتمع تعددي يزدهر فيه الحوار تدار فيه الصراعات السياسية بطريقة حضارية وسلمية . السير نحو الانفراج بشكل بداية هذا المسار الإصلاحي وهي أولوية مؤكدة على كل الأطراف على انجازها.