تونس تسعى لتسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لليونسكو    الحرس البحري ينجد 11 بحارا كانوا على متن مركب صيد تعرض للعطب قبالة شاطئ هرقلة    بودربالة والسفير الإيطالي يؤكدان ضرورة تكثيف الجهود لمواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية تعزيزا للاستقرار في المنطقة    العجز التجاري الشهري لتونس يتقلّص بنسبة 4،16 بالمائة موفى مارس 2024    الملتقى الوطني الأول للماء: يفتح حوارا وطنيا حول إشكاليات الماء في تونس    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    ''تيك توك'' يتعهد بالطعن أمام القضاء في قانون أميركي يهدد بحظره    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    صان داونز -الترجي الرياضي : الترجي على بعد 90 دقيقة من النهائي    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    أكثر من 20 ألف طالب تونسي من غير المتحصلين على منح دراسية يتابعون دراساتهم العليا في الخارج خلال السنة الجامعية 2023 - 2024    عاجل : تترواح أعمارهم بين 16 و 19 سنة ... الكشف عن شبكة دعارة في منوبة    ترسيم 850 عونا وقتيا مكلفا بالتدريس وتسوية وضعية بقية الأعوان تباعا خلال هذه السنة (جامعة التعليم الأساسي)    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    المنستير: افتتاح ندوة المداولات حول طب الأسنان تحت شعار "طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق"    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    أحدهم حالته خطيرة: 7 جرحى في حادث مرور بالكاف    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا    مأساة جديدة في المهدية: يُفارق الحياة وهو بصدد حفر قبر قريبه    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة    أريانة: حملة مشتركة للتصدي للانتصاب الفوضوي    سيدي بوزيد: انطلاق ورشة تكوينيّة لفائدة المكلّفين بالطاقة بالإدارات والمنشّآت العمومية    عاجل/ في ارتفاع مستمر.. حصيلة جديدة للشهداء في غزة    تم انقاذها من رحم أمها الشهيدة: رضيعة غزاوية تلحق بوالدتها بعد أيام قليلة    70 بالمئة من الأمراض تنتقل من الحيوانات ..مختصة في الثروة الحيوانية توضح    موعد انطلاق أشغال الجزء الرئيسي للجسر الجديد ببنزرت    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    كم تبلغ معاليم مسك الحساب بالبريد التونسي؟    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    الرابطة الأولى: كلاسيكو مشوق بين النجم الساحلي والنادي الإفريقي .. وحوار واعد بين الملعب التونسي والإتحاد المنستيري    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلاميون والسلطة في تونس.. قراءة في مسار الحياة السياسية وأفق تطويرها
نشر في الحوار نت يوم 07 - 11 - 2009

هذا البحث لأسباب منهجية لن يأخذ في الاعتبار دور المنظمات الاجتماعية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل ولا دور المجتمع المدني وبالأساس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان
ولا دور الأحزاب الوطنية وبدرجة أولى أحزاب المعارضة المعترف بها وغير المعترف بها ممانعة أو مسايرة وليس في ذلك تقليل من شأنها وتأثيرها إنما سيركز فقط على تقديم تصور لمستقبل العلاقة بين حركة النهضة السياسية الإسلامية المحظورة وبين السلطة في تونس، منطلقا من مسلمة أن العلاقة بين الطرفين تشكل عقدة الحياة السياسية، ويرتبط بطريقة تسويتها نمط تطور الحياة السياسية عموما علما وأن صاحب البحث عبر في مقالات وحوارات سابقة عن اعتقاده بأن الحياة السياسية في تونس في حاجة إلى إعادة هيكلة وبناء وصياغة لا كعملية فوقية أو إرادية فحسب بل كجزء من عملية تاريخية تضع البلاد (دولة ومجتمعا) في مدار الحداثة الحقيقية في إطار الثوابت الوطنية ومن ضمنها الهوية العربية الإسلامية.
هوية الدولة مشروع لم يكتمل
"من بين كل التشكيلات الاجتماعية القائمة اليوم، الدولة هي على الأرجح أكثرها قوة والأكثر ظهورا والأشد إكراها أيضا" [1]
لقد تحددت هوية الدولة القطرية الجديدة بحسب طريقة الانتقال من الخضوع إلى الاستعمار المباشر إلى الحكم الذاتي أو الاستقلال المنقوص أو بحسب طبيعة النخبة التي فاوضت على الاستقلال وتصدرت لتسيير دواليب الدولة في طورها الجديد وبحسب القوى الاجتماعية التي شكلت قاعدة الحكم وحليفة الفئات الحاكمة.
ولعله من ميزات هذه الدولة – التي تحتاج فعلا إلى الدراسة من حيث أساسها القانوني وبنيتها وتكوينها ووظيفتها - أنّ الديمقراطية لم تكن شكلها الأساسي ولا هي في أجندتها وأولوياتها. ورغم أنّ الحركات الإصلاحية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر نادت بالحرية ونددت بالاستبداد اقتداءا بالتجربة الأوروبية وتلمسا لشروط النهضة فإنّ الدولة المتولدة عن الأوضاع الجديدية والمتحولة وفق مقتضياتها كان هاجسها الأساس استكمال عملية التحرك ببناء سلطة وطنية قبل أن تصبح أسلوبا في الحكم ومنهجا في الحفاظ على السلطة، حتى صارت كل الجهود تبذل من أجل البقاء في الحكم واستمرارية السلطة. واذا كانت بعض التجارب قد بقيت منشدّة إلى الماضي ومضامينه الدينية والثقافية فذلك لقرب عهدها للاستعمار الذي كان من بين أهدافه غربنة المجتمعات الواقعة تحت الاحتلال وطمس هويتها الثقافية، فإنّ بعضها الآخر قد أخذ بالنموذج الغربي في استبعاد المحتوى الديني والثقافي وقد كان ثمن ذلك فقر في هوية الدولة الجديدة وشرخ ما فتئ يتسع بينها وبين مجتمعها وكان الغائب الأبرز هو الديمقراطية لذلك وإن بدا الأمر لا يخلو من مفارقة كانت الحركات الإسلامية الاحتجاجية الحديثة من أشد الحركات السياسية إلحاحا على مطلب الحرية بالرغم مما اتهمت به من عداء للديمقراطية وخطر عليها. وترتفع المفارقة في تقديرنا إذا افترضنا أنّ إثراء هوية الدولة الناشئة يكون بإدماج البعدين الغائبين من مشروعها بعد الحرية والديمقراطية وبعد الهوية العربية الإسلامية، كبعدين متلازمين يمكن اعتبارهما الإضافة الأصيلة غير الواعية أحيانا للتيار الإسلامي الوطني. "إنّ الفترة الاستعمارية لا تزال قريبة جدا ويشعر بها كجرح عميق بما يحول دون عدم استمرار النزعة الثقافوية مدة طويلة. وفي بحثها عن هويتها فإنّ الدولة الجديدة ستنحو مدة أطول لتحديد نفسها عن طريق رفض الأخر"[2].
و في حال الدولة التونسية فإنّ النقاش داخل المجلس التأسيسي المكلف بغعداد دستور الجمهورية التونسية كان حادا والانقسام واضحا بين تيار أراد التأكيد على مكون الهوية وتيار يمنح الأولوية للمكون القانوني للدولة الشخصية "فوقع نقاش كبير بين التيارين المذكورين وتم حسم الجدل من قبل الرئيس بورقيبة"[3] بصيغة توفيقية هيأت الظروف للتمكين للطرف الموالي للغرب وتهميش الطرف المتمسك بالهوية لكن الجدل بقي قائما "حول مسائل أساسية من مثل الحريات الفردية وحقوق الإنسان وغيرها" [4]. وسيأخذ هذا الصراع حول الهوية والحريات بعدا جديدا مع صعود الحركة الإسلامية الحديثة ذات الخطاب الإيديولوجي والسياسي المتميز عن الزيتونيين والعروبيين من خصوم بورقيبة وحلفائه كما ستتميز الحركة الإسلامية بشكلها التنظيمي الحديث وأساليبها الحركية التعبوية التي جعلتها مصنفة في عداد الأطراف المعارضة من خارج المنظومة وأغفل المراقبون صلتها بصراع الهوية الذي ليس إلاّ صراعا حول محتوى النظام ومضمون مؤسسات الدولة لا صراعا حول مبدأ وجودها واستمرارها وسنحاول في هذا البحث التأكيد على قصور المنظومة وفقر هويتها الثقافية والسياسية معتبرين المعارضة الإسلامية طرفا وطنيا معنيا بتطوير النظام وإخراجه من أزماته المتكررة تستوي في ذلك مع باقي المعارضات وتتميز ببصمتها الخاصة في موضوع الهوية العربية الإسلامية التي تعد قاسما مشتركا بين كل التونسيين.
الهوية الغائبة والتعددية المؤجلة
من الصعب أن نجزم بأنّ المطلب الديمقراطي كان مطلب الجماهير العريضة أو هو برنامج سياسي واضح ومفصل لدى قوى تحديثية وتنويرية وتجديدية بقدر ما هو دعوة نخبوية هدفها الإصلاح والحماية من مخاطر الانحراف. لقد كان المطلب الديمقراطي وصفة لإخراج النظام من أزماته أكثر مما هو بديل عنه تدعمه قوى تغييرية أو جمعا تاريخيا مستجمعا شروط التناوب.
فالمعارضة الديمقراطية ظاهرة هامشية نخبوية لم تهيئ لها ولم تسبقها حركة ثقافية حملت معها الافكار الجديدة والوعي بالحاجة إلى التعددية والتداول والحاجة إلى وجود سلطة مضادة ومجتمع مدني نشيط وحياة حزبية معبرة عن حقيقة القوى والمصالح والمطامح والانتظارات الموجودة صلب المجتمع "إنّ ضرورة وجود حزب واحد طليعي ودوره المهيمن في بلورة ومراقبة سياسة الأمة هي المبادئ الأساسية التي حددت اختيار الحلول المقدمة لمختلف المسائل المطروحة على الدولة الجزائرية"[5].
وقد كان الاعتقاد سائدا لدى شريحة من النخب بأنّ الجماهير لم تنضج للديمقراطية وأنّه عوض أن يحدد المجتمع صيغة الدولة فإن الدولة هي الموكول إليها صياغة المجتمع "في إفريقيا السوداء البناء الوطني وبناء الدولة كان ولا يزالان بالنسبة لحركة التحرر الوطني مهمتان متكاملتان. إنّه بواسطة الدولة تولد الأمّة"[6].
لا ندري بأي مسوغ نفت النخبة عن الجماهير بلوغها سنّ الرشد السياسي وحالت دونها ودون تقرير مصيرها بنفسها كما لو أنّها ليست هي التي دحرت الاستعمار بتضحياتها "إنّ الحزب الواحد بعيدا عن أن يشكل في كل الأحوال مصدرا للاستقرار السياسي يمكن على عكس ذلك أن يدعم الاستقرار. إنّه بتعطيله للمؤسسات السياسية الذي هو سبب فيه يهيئ للحلول العنيفة والانقلابات العسكرية والاغتيال السياسي"[7].
وقد وصل الأمر بوزير أول أسبق أن قال في إحدى خطبه بأنّ الشعب اذا خير بين الحرية وبين الأمن فإنه يختار الأمن، فمثل هذا الموقف يبين كيف أنّ الأولويات عند الدولة الجديدة والنخب الحاكمة كانت مرتبة ترتيبا معكوسا نتج عنه لا تغييب الجماهير فحسب بل إنتاج الأزمات االمتعاقبة.
إنّ صراع الهوية والنضال من أجل الحرية في ظل التغيرات العالمية والاقليمية والتحديات الداخلية والخارجية من شأنه أن يعيد ترتيب الأولويات وبحسب شعور جميع الأطراف في السلطة وخارجها بحقيقة التحديات وكيفية التعاطي معها يمكن أن تقطع المسافة بنفس النسق والسرعة باتجاه بعضها البعض وتوحيد الوجهة المستقبلية حتى وإن تعددت المقاربات والاجتهادات أو أن تعمق الشرخ ويسير كل منها في الاتجاه المعاكس للطرف الآخر.
دخول الإسلاميين في المعادلة، السياق والآفاق
إنّ وجود التيار الإسلامي في الساحة الوطنية التونسية أمر مسلم به من طرف الدولة والحزب الحاكم وبقية أطراف المعارضة، غير أنّ الإقرار بهذا الوجود الواقعي لا توافقه إرادة سياسية تقر بشرعيته وتقنينه. بل إنّ القانون المنظم لوجود الأحزاب السياسية تمت صياغته بطريقة تستبعد التيارات ذات المرجعية والخلفية الإسلامية. ومن المسلم به أنّ القوانين تنفرد الدولة بسنها وليس مجلس النواب إلاّ الأداة الطيعة لتمريرها دون اعتبار لإرادة الشعب ودون استفتاء رأيه، رغم أنّه يُفترض في النواب أن يكونوا يعبرون بكل أمانة عن تلك الإرادة بعد أن يكون قد تم اختيارهم بصورة ديمقراطية لا لبس فيها عن طريق صندوق الاقتراع. "إنّ الدولة الجديدة على عكس (السلطة التي تتسم في المجتمعات السياسية التقليدية بالعطالة القانونية) ترتكز على فكرة السيادة. وباعتماد فكرة السيادة تم اقتحام الميدان السياسي والقانوني ووفرت للدولة بذلك نشاط قانوني كامل"[8] فمبادئ الدستور بما فيها الهوية الدينية أو اعتبار الدين مصدرا من مصادر التشريع أو مصدرا حصريا للتشريع لا معنى له ولا إمكان لتجسيده في الواقع إلاّ بقرار من الدولة (نفس المرجع نفس الصفحة).
هذا التيار الإسلامي في تونس وإن كانت لا تنفرد بتمثيله حركة سياسية واحدة فإنّ حركة النهضة تعد الطرف الأكثر تمثيلا والأوسع انتشارا في كافة قطاعات المجتمع التونسي. فالجماعة الإسلامية التي انطلقت في بداية السبعينات كجماعة دعوية تمارس التبشير بالفكرة الإسلامية وتعمل للاقناع بالمثال الإسلامي كصيغة ممكنة بل حصرية لتصحيح الانحرفات القيمية والأخلاقية التي جرها التغريب والتحديث والانحطاط والتي يعود مسؤولية جانب منها إلى خيارات الدولة الثقافية والسياسية. ثم أصبحت الجماعة الإسلامية حركة سياسية بعد أن أعلنت عن نفسها إثر أحداث اجتماعية وسياسية وطنية منها:
1 – أحداث "الخميس الاسود" 26 جانفي 1978 المتمثلة في مواجهات دامية بين الجماهير وبين أجهزة الأمن التي اطلقت الرصاص على المتظاهرين العزل الذين سقط منهم العشرات. وقد جرت الأحداث إثر إعلان الاتحاد العام التونسي للشغل عن الإضراب العام بعد أزمة بين المركزية النقابية بزعامة الحبيب عاشور وبين حكومة الوزير الأول الليبرالي الهادي نويرة على خلفية حرب مفتوحة من أجل خلافة الرئيس بورقيبة بين أجنحة في السلطة وكتل داخل الحزب الدستوري الحاكم [9] / [10]
2 – عملية قفصة المتمثلة في دخول مجموعة معارضة مسلحة ذات توجه قومي عربي من الحدود الليبية التونسية بدعم قيل آنذاك إنه من قبل النظامين الليبي والجزائري بغاية الإطاحة بالنظام التونسي الموالي للغرب والحليف للولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا. وقد مثلت تلك العملية تحديا أمنيا لم تعرفه الدولة التونسية من قبل وفرضت على السلطة تعديلا في سياساتها الداخلية باتجاه انفتاح سياسي محسوب ومحدود كما وفرت لتيارات المعارضة من اليمين واليسار فرصة للإعلان عن نفسها وعن برامجها بعد أن كانت تعمل في السرية أو تتحسس طريقها نحو المجاهرة بأنشطتها وإيديولوجياتها.
3 – أحداث فيفري 1981 التلمذية والطلابية والتي كان للإسلاميين دور بارز فيها وقد أبانت الأحداث عن حدود تجربة الانفتاح السياسي وكشفت حاجة التونسيين للتنفيس ورغبتهم في التعبير على تشكل الساحة السياسية على أسس إيديولوجية وسياسية مع استمرار خلفية الصراع على السلطة واحتداد معركة الخلافة.
4 – حصول انكشاف أمني تأكد لدى السلطة من خلاله وجود تنظيم إسلامي مهيكل له مؤسسات قيادية مركزية وجهوية وتحكمه لوائح وقوانين. وقد كانت تلك التطورات في بنية الجماعة وأسلوب عملها ثمرة الصدمة التي تعرضت لها عندما تفطنت أنّها كانت غائبة تماما وغافلة عما يجري حولها وعن الأحداث التي عصفت بالبلاد في جانفي 1978، وأيقنت أنه لا أحد من الأطراف القائمة والمتصارعة يمثلها سياسيا أو يعبر عن أهدافها الدعوية والإصلاحية الشاملة. وأنه عليها أن تأخذ مصيرها بيدها وتنتزع زمام المبادرة من الأطراف العلمانية ولا أقل من أن تصبح طرفا في المعادلة وقد ساعدها على ذلك استعداداتها الذاتية للتحول إلى حركة احتجاجية بعد ان لاقى خطابها الدعوي السياسي الذي كانت تبثه في الخطب المساجدية والفضاءات الشبابية، التلمذية والطلابية رواجا فاق انتظاراتها ساعدها على ذلك انتصار الثورة الإسلامية ضد شاه إيران بزعامة شخصية دينية ثورية عرفت كيف تفعّل المذهب الديني وتحوله إلى إيديولوجيا ثورية وثورة اجتماعية، سياسية وإيديولوجية أفصحت عن ممكنات عقيدة دينية متغلغلة في النفوس وهي أوثق رابطة اجتماعية وروحية وأهم مخزون عند الأزمات.
أزمة هوية، أزمة شرعية
لقد أمكن للدولة التونسية أن تتجاوز أزماتها الظرفية رغم حدتها فقد امتصت الأزمة الاجتماعية السياسية الناتجة عن أحداث جانفي 1978 وقفصة 1980 كما حاولت احتواء الصعود الإسلامي بمحاكمة قيادات حركة الاتجاه الإسلامي بتهم واهية وملفقة فتلك كانت طريقة النظام في تحييد وتصفية خصومه منذ حصول البلاد على الاستقلال في 20 مارس 1956.
كما عمدت إلى تزييف الانتخابات التشريعية لخريف 1981 بعد أن انهزم فيها الحزب الحاكم أمام حركة ناشئة ومنشقة عنه هي حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة الوزير الأسبق "أحمد المستيري".
غير أنّ أزمة النظام ما لبثت أن تفاقمت بتفجر الأوضاع الاجتماعية واحتداد الضغوط الاقتصادية وقد بلغ الاحتجاج الاجتماعي أوجه بأحداث الخبز في 3 جانفي 1984 ودخلت حرب الخلافة بين شقوق السلطة ومراكز النفوذ أحد منعرجاتها الحاسمة وكشفت الأحداث أنّ التيار الإسلامي لم يتقهقر بل تحول رغم القمع والمحاكمات إلى مد ثوري وإسلام احتجاجي باتت شعاراته السياسية صدى لمطالب كل الفئات الاجتماعية المتضررة من سياسة النظام كما تبنى جل مطالب المعارضة السياسية (ليبرالية ويسارية) وجعلها مطالبه الخاصة وبدا كأن البلاد تتجه إلى استقطاب سياسي بين الإسلاميين والسلطة وكان من الممكن أن تجد السلطة أرضية التقاء معهم تجاه المعارضة اليسارية الراديكالية ذات الموقف العدائي من الدين والإقصائي للإسلاميين كما كان من الممكن أن يلتئم تحالف سياسي يضع التناقضات الإيديولوجية بين قوسين ويجمع الإسلاميين والمعارضة العلمانية حول المطالبة بالحريات الديمقراطية والوقوف جبهة واحدة ضد الاستبداد، ولكن لأمر ما جرت الأمور على خلاف السيناريو الأول والسيناريو الثاني، إذ دون سعي منهم وجد الإسلاميون أنفسهم يدخلون على خط الصراعات على السلطة ويتم إقحامهم كرقم مهم في حرب الخلافة وكما كان منهج تعاملهم مع النظام أهم اختبار لوحدة توجههم السياسي كانت مسألة كيفية التعامل معهم أهم اختبار لنوايا كل طرف داخل السلطة وخارجها على مستوى الرهان السياسي والثقافي المستقبلي.
شهدت أواسط الثمانينات تحول ملف الإسلاميين إلى قضية وطنية ذات أولوية تتعلق في ظاهرها بالاعتراف أو بعدم الاعتراف بهم وتتصل في جوهرها وحقيقتها بهوية الدولة التونسية وبتحول أزمة النظام إلى أزمة هيكلية يرتبط بها استمراره أو زواله. فالصراع على السلطة بين أجنحتها أصبح سافرا ومكشوفا وسمم الأجواء السياسية وكشف افتقار الدولة إلى أي مضمون أخلاقي وثقافي متصل بهوية المجتمع وافتقارها إلى أي مضمون ديمقراطي متصل بطموحات القوى الحية بالبلاد وبشروط إمكان تحول النظام إلى نظام ديمقراطي.
وكما لم تنجح النخبة الحاكمة والمجتمع المدني الناشئ والمعارضة المرتبكة في إحداث مصالحة وطنية لم تتوفق إلى إيجاد الآليات القانونية والسياسية الملائمة لتأمين انتقال السلطة بطريقة حضارية تضمن تطور الدولة من دولة الحزب الواحد إلى دولة قانون ومؤسسات كما لم تنجح الدولة والمجتمع المدني وقوى المعارضة العلمانية والإسلامية في تحقيق وفاق سياسي حضاري حول نمط الحكم ونمط المجتمع. وتداخلت معطيات الحراك الثقافي والسياسي دون التوفق في إحداث فرز سياسي إيديولوجي أو إحداث خارطة طريق سياسية ثقافية تضمن الانتقال الديمقراطي والتعايش السلمي والتناوب على السلطة وإقرار التعددية الفعلية والتمثيل الحقيقي للتيارات الإيديولوجية والسياسية دون إقصاء ودون لجوء الأطراف المتنازعة إلى اعتماد السلطة القائمة أو السلطة القادمة أداة في حسم الصراع نيابة عن الشعب ودون أخذ التفويض والمشروعية منه. لذلك ساد منطق الإقصاء على مبدأ الاعتراف المتبادل حتى غدت الاستراتيجية والخطط والتكتيكات السياسية ترمي إلى حسم القضايا المصيرية بالطرق غير الديمقراطية أملا في الحفاظ على المواقع وعلى موازين القوى القائمة. أو أملا في قلبها لذلك كان يتم في كل مرة ترحيل الأزمة دون حلها واعتماد الضربات الاستباقية والمباغتة لإجهاض البدائل الممكنة وسد المنافذ القانونية على الخصوم السياسيين، والتمترس داخل الأطر القانونية ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني حتى لا تفتك أو تصبح بين أيدي الطرف المقابل. يصدق هذا على من هم في السلطة أو خارجها لذلك نجد في كل مستويات هياكل السلطة والمجتمع المدني حرب مواقع معلنة وخفية من أجل الإبقاء على سيطرة السلطة والحزب الحاكم وحلفائه أو الإبقاء على الاستقلال عنهم ودعمهم؟، مما كيف الأزمة وشعب مداخلها وعقد معطياتها، حتى تداخلت العوامل السياسية مع العوامل الثقافية والأمنية ولم تعد الأهداف والأدوار واضحة بينة عدا هدف السلطة وما يوصف به النظام من أنه تحول إلى نظام أمني بوليسي، ليس إلاّ المظهر الصارخ لهذا التداخل الذي أفقد سياسة النظام أي معقولية. وأفقد أطراف المعارضة أي وضوح استراتيجي. وبث حالة من الخوف من المجهول والخوف على المستقبل وحالة من انعدام الثقة بين الدولة والمجتمع. وإذا أخذنا بالاعتبار اختلال موازين القوى بين دولة توصف بالدولة المجهرية أو الدولة الراصدة أو دولة الثقب الأسود وبين مجتمع مدني ضعيف ومحكوم عليه بالتهميش نجد أنّ الجهاز الأمني وروافده السياسية والإعلامية صار موكولا إليه تأمين استمرار الجمود السياسي وإبقاء كل طرف ضمن حدود المسموح به علما وأنّ الممنوع هو القاعدة والمباح هو الاستثناء مما جعل الفضاء العمومي مرتهنا إلى التقديرات الأمنية وليس مجالا للتعايش والتواصل والحوار.
الإسلاميون والسلطة بين المواجهة والتهدئة والمراجعة
مرحلة التسعينات هي المرحلة الأشد أثرا في حياة حركة النهضة التونسية إذ وضعت لأول مرة وجودها وأمنها وبقاءها محل امتحان غير مسبوق ووضعت خياراتها محل تمحيص مراجعة فبعد أن شارفت على الانتقال بنجاح من السرية إلى العلنية ومن اللاشرعية القانونية إلى الشرعية القانونية - وقد رغبت في ذلك وسعت إليه بكل جهدها – وجدت نفسها تعود إلى المربع الأول في علاقة القطيعة والتأزم مع نظام اعتقدت أنها يمكن أن تتعايش معه دون أن تتخلى عن ثوابتها الفكرية ودون أن تقدم تنازلات جوهرية. واعتقد النظام أنه باعتماد سياسة سحب البساط والتشريك الجزئي وتأخير الاستجابة لطلبها الملح للتأشيرة القانونية يمكن أن يضعفها أو يقسمها ويضيق هامش فعلها ومجال تأثيرها وقد أدى تعارض أولويات كلا الطرفين إلى تفويت فرصة تدشين تجربة سياسية قائمة على الحوار وميسرة لعملية الانتقال الديمقراطي ولا تزال البلاد التونسية تحمل آثار ذلك الفشل إذ حل الشك وانعدام الثقة محل الأمل والوفاق في حين قطعت أقطار مجاورة (الجزائر والمغرب) بعد صدام أو بعد مفاوضات سياسية خطوات حاسمة باتجاه الوئام الوطني والوفاق السياسي ويغلب على الظن بأنّ مرحلة القطيعة والصراع العنيف صفحة طويت بدون رجعة في القطرين الجارين رغم عقبات الطريق وصعوبات التطبيق.
إنّ عشرية التسعينات هي التي حصل فيها فرز داخل الساحة الإسلامية في العالم بأسره وليس في منطقة منه فحسب. إذ اختارت بعض التنظيمات الإسلامية طريق الجهاد كخيار استراتيجي وأسقطت ما سواه من الخيارات قبل أن يقوم بعضها بمراجعات عميقة تحت تأثير القمع والمنع والملاحقات الأمنية وتحت ضغط الأخطاء الحركية والتكتيكية والتطبيقية إذ وجدت نفسها تبتعد عن أصول تفكيرها وتحيد عن أهدافها أو تخوض مواجهة مفتوحة غير متكافئة لا يؤمن معها عدم انفلات زمام الأمور أو الإساءة إلى مشروعها لذلك كانت مراجعاتها تدخل في باب العودة إلى الأصل مرورا بالاعتراف بالأخطاء وممارسة النقد الذاتي. أما بعض التنظيمات الأخرى فقد اختارت توسيع ساحة المعركة أو نقلها إلى ساحة "العدو" (عملية 11 سبتمبر...) في حين اختارت تنظيمات أخرى طريق المشاركة السياسية وأعرضت نهائيا عن السرية والعنف وعملت بمبدأ التدرج والتعايش والمساندة النقدية للأنظمة أو المعارضة السلمية والبحث عن القواسم المشتركة إيديولوجيا أو سياسيا أو الاثنين معا. كما دخلت مرحلة التخصص والفصل بين مجالات العمل الإسلامي بحسب خصوصية كل حركة إسلامية وكل نظام قطري كما قبلت بضوابط العمل السياسي ألزمت نفسها بها أو حملت على الالتزام بها قبل أن تقتنع بجدواها وتجني ثمارها من ذلك الإعلان عن عدم احتكار التحدث باسم الإسلام وعدم احتكار الصفة الإسلامية وعدم الزج بالمقدسات والثوابت في الصراعات الحزبية والسياسية.
لماذا تعثرت حركة النهضة وتقدمت الحركات الإسلامية الأخرى في المنطقة؟
لقد كانت تجربة الاعتقالات والمحاكمات والسجن والملاحقات وحتى تجربة المنفى التي تعرضت لها حركة النهضة التونسية طيلة عقد التسعينات تجربة مرة ومرحلة استثنائية من المواجهة المفتوحة والقطيعة السياسية وقد طالت إلى الحد الذي صار معه من الصعب توقع سيناريو مغاير ومشهد مختلف لولا أنّ المناخ السياسي بحسب عديد المراقبين أفضل حاليا مما كان عليه طوال عقد التسعينات رغم ما يسجل من تراجع في واقع الحريات خلال الأشهر الأخيرة مما دفع بالناشطين السياسيين المعارضين والحقوقيين وهيئات المجتمع المدني إلى الاحتجاج والتذمر والتشاؤم على خلفية ملفات سياسية واجتماعية وإنسانية (محاكمات السلفيين، أحداث الحوض المنجمي، محاصرة نشاط المعارضة)
وقد كانت سنوات عقد التسعينات ثقيلة لا على الإسلاميين وحدهم بل كانت شديدة الوطء على المجتمع التونسي بأسره لذلك كانت كل علامات الانفراج وحتى مجرد التلويح به تحدث ارتياحا لدى الرأي العام وتقلل من الشكوك لدى النخبة التي لا تخفي تضايقها من الجمود والانسداد، ورغبتها في التعجيل بالانفتاح والإصلاحات.
وقد أدت سياسة القبضة الحديدية إلى تلاحم الصف الداخلي لحركة النهضة التي صارت موزعة على ثلاثة دوائر تتحد في مشاعرها وتختلف في أوضاعها وهي دائرة السجن التي ضمت غالبية القيادات والمناضلين ودائرة المهجر التي صارت تضم القيادة والمؤسسات والمهجرين الذين وجدوا في بلدان اللجوء ملاذا من مصير إن لم يكن السجن فسيكون حتما الهرسلة والمتابعة. أما الدائرة الثالثة فدائرة الداخل التي غلب عليها الانتظار بعد أن صار الحظر واللاتنظم أمرا واقعا ومفروضا. وكأنما حشرت الحركة في زاوية ضيقت لديها إلى الحد الأقصى مساحة الاختيار والمبادرة فصارت أولويتها الحفاظ على الوجود في مرتبة ما قبل الوجود السياسي أي الاكتفاء بالالتزام السلوكي الفردي الأخلاقي والتربوي الذي يميز العنصر النهضوي في كل حالاته وإبداء التعاطف القلبي والصبر الإيجابي المصحوب بالأسى على قلة الحيلة تجاه شدة المحنة، إذ أن الأمل في عودة الحركة ورفع القيود على أنشطتها وإنصافها بعد مظلمة ظل قائما رغم محاولات التشكيك والتحذير. فإيمان مناضلي النهضة بمشروعها على ما نعتقد لم تنل منه صعوبات الواقع وانقضاء الأيام وهي في حالة الحظر واللاتنظم والعجز.
الأزمة: المسؤولية والنتائج
إنّ تقييما ما قد انجز عن تجربة التسعينات. ولكن من الصعب أن نعده تقييما نهائيا، ورغم أنه ليس بحوزتنا فيكفي أن يكون قد قام بإنجازه دائرة المهجر وحدها. ولم يتيسر لأسباب موضوعية إشراك دائرة السجن ودائرة الداخل اللتان أصبحتا دائرة واحدة بعد الإفراج عن آخر دفعة من قيادات النهضة في شهر نوفمبر 2008. لذلك يحتاج الأمر إلى فترة ليست بالقصيرة وإلى مناخ ملائم حتى يمكن أن نتوقع التوصل إلى مقاربة تقييمية تحدد بدقة نتائج مرحلة أشرنا آنفا أنها الأشد أثرا في حياة حركة النهضة. ولكن بالعودة إلى مرحلة ما قبل القطيعة بين حركة النهضة في تونس وبين نظام الرئيس بن علي يمكن أن نلاحظ بأنّ الحركة تريثت أكثر من اللازم في إحداث إصلاحات داخلية وحسم قضايا تنظيمية. كما أبطأت في حسم أمر مشاركتها السياسية بضريبة القطع مع الماضي القريب. كما أنّ الحركة ظهرت بثقل شعبي وشبابي وحجم انتخابي ودائرة تعاطف واسعة أحدثت فزعا لدى خصومها ومنافسيها في الداخل. وتخوفات لدى أطراف خارجية ترى نفسها معنية بتطور الأوضاع وبموازين القوى السياسية الداخلية. كما أنّ الحركة تعجلت أكثر من اللازم اشتراط تسوية وضعيتها القانونية من طرف النظام ومعاملتها معاملة الشريك الكامل في الحقوق والواجبات. ولعلها تغافلت عن وجود متربصين بكل تقارب متهيئين لكل صراع ولكن هل كان من الممكن أن تحدث الحركة تعديلا جذريا في خياراتها وبنائها التنظيمي وخطها السياسي في ظرف عام ونصف أو عامين على أقصى تقدير دون أن تكون هناك ظروف ملائمة لقطع المرحلة الانتقالية بسلام. أي دون تصدع داخلي أو صدام مع النظام؟ ألم تقم حركة الاتجاه الإسلامي بأكثر مما هو مطلوب منها اذ قامت بتغيير اسمها إلى حركة النهضة وإعادة صياغة أهدافها والإعلان عن هيأتها التأسيسية والتقدم بمطلب تأشيرة إلى وزارة الداخلية ورفع أية قيود عن الاتصال بين زعامتها وبين رأس النظام أو ممثليه، وإصدار الأوامر لقواعدها وأنصارها بالتصويت لمرشح السلطة والحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية لسنة 1989 مقابل المشاركة بقائمات مستقلة تتضمن أسماء لبعض قيادات الصف الثاني. فهل تغلبت الخلافات حول القضايا العالقة على ارادة التجاوز وطي صفحة الماضي والرغبة في التهدئة والمصالحة أم أنّ آلية الحوار والاتصال المعتمدة لم تكن عاملا مساعدا على تحقيق تلك الإرادة بل ساهمت في إفشال الحوار وإجهاض عملية التقارب؟
لقد كانت حركة النهضة قريبة من الاعتراف قريبة من الانزلاق ولعله كانت تحكمها رؤيتان إحداهما وهي الرؤية السائدة عمادها الإقدام على المصالحة والمشاركة والوفاق وإحسان الظن بالطرف المقابل والأخذ بعين الاعتبار وجود فئة متنفذة تعمل بكل قواها لعرقلة التغيير وهي قوة جذب إلى الوراء لا قوة دفع إلى الأمام. أما الرؤية الثانية وعلى الأرجح أنها لم تكن غالبة فقوامه إيجاد هدنة لاستعادة العافية لفرض أمر واقع على نظام لم يتخلص من إرث الحكم السابق وهو غير جاد في الاعتراف بالحركة الإسلامية وغير جاد في المصالحة مع الهوية العربية الإسلامية ويريد ربح الوقت لتثبيت وجوده والتمكين للخصوم الإيديولوجيين والسياسيين لتيار الهوية ولحركة النهضة بالأساس. ولم تكن الرؤيتان مترجمتان إلى مشروعين سياسيين يشقان الحركة بل كان الشخص الواحد يتردد بين الرأيين وينتقل بين الموقفين وقد كان سلوك السلطة سببا في استمرار هذا التردد اذ أنها أعطت إشارات متناقضة لم تساعد على تطور الجدل الداخلي باتجاه الانتقال إلى طور جديد بل أنها زرعت الشك وعمقته داخل صفوف القيادة في وعود السلطة وفي صدق إرادة التغيير لديها. إذ كثيرا ما تواجه حركة النهضة من طرف النظام وشرائح من العلمانيين بعدائية غير مبررة وغير مفهومة من ذلك حملات التشويه والتشكيك والتحريض التي كانت تقودها أقلام محسوبة على السلطة أو بتحريض منها في وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية في تعارض سافر مع مبدأ الوفاق ومشروع الميثاق الوطني.
ولم يكن هناك داخل السلطة وخارجها من كان يملك اليقين الجازم بأن مستقبل العلاقة بين حركة النهضة الإسلامية وبين النظام سيؤول إلى الوفاق أم إلى الافتراق. كل ما كان يمكن متابعته وملاحظته وأن كل طرف سياسي حاكم أو معارض يعبر عن مخاوفه من تكرار مواجهة تدخل البلاد في مرحلة من عدم الاستقرار لا تتحملها وتفتحها على المجهول أو "صفقة" تهدد المكتسبات "التقدمية" للمجتمع التونسي إذ كان على سطح الأحداث ما يعطي الانطباع بأنّ البلاد متجهة نحو استقطاب بين طرفين (الإسلاميون والحزب الحاكم) والحال أنّ حقيقة الأوضاع كانت ترشح البلاد لطريقين طريق الديمقراطية والهوية والحداثة والاستقرار وطريق الانغلاق والإقصاء والقطيعة. ولم يكن أحد يقدر بحق كلفة الحسم بين خيارين: خيار التحول الديمقراطي والاعتراف بجميع الأطراف دون تحفظ. وخيار الاستبعاد للطرف الإسلامي بعد فشل محاولات ترويضه واحتوائه وشقه ودمجه في منظومة كشفت عن ضيقها وجمودها.
صراع النفوذ والسيطرة على المجال الرمزي
لقد غذى صعود الإسلاميين صراعا على المجال الديني الذي لم تعرف السلطة منافسا لها عليه قبل ظهور الحركة الإسلامية الحديثة. فالنخب العلمانية داخل السلطة وخارجها كانت حازمة في تهميش بعد الهوية العربية الإسلامية. وقد قطعت في ذلك شوطا بعيدا صارت تشعر معه أنها مطلقة اليدين في صياغة مجتمع هجين غير واضح الانتماء تستنكف أن تبنى شخصيته على القيم العربية الإسلامية ظنا منها أنه كلما تجذرت القطيعة مع الماضي خيره وشره، كلما اقتربت من ركب الحضارة وقلصت الفجوة مع الدول المتقدمة وبقدر ما كانت عملية تهميش التدين التقليدي ورموزه عملية سهلة لنخبة رأت فيه تخلفا وانحطاطا وأفقدته كل فاعلية اجتماعية وتاريخية بقدر ما كانت محاولة تصويب المسار بعد أن قطعت خط الرجعة مع الهوية عملية على غاية من التعقيد. فكما كان التدين التقليدي ورموزه يفتقر على الأرجح إلى مقومات الاستمرار والتطور كان نهوض النخبة التغريبية بعملية الإحياء الديني أمرا مستحيلا ففاقد الشيء لا يعطيه إذ لم تكن مؤهلة لذلك وليس بمستطاعها غير المزايدة بالمعطى الديني على شرائح شبابية أرادت أواسط السبعينات باسم إنجاز الثورة ومناهضة الإمبريالية الإلغاء الكلي للدين كمعطى اجتماعي وثقافي وكرأس مال رمزي.
لقد كانت الحركة الإسلامية التي نشأت على قاعدة التناقض مع السلطة واليسار الماركسي في نفس الوقت هي المرشحة لإعادة الفاعلية لدور الدين عقيدة وسلوكا وأخلاقا ونظاما اجتماعيا ولكن أنّى لها أن تؤدي ذلك الدور دون الاصطدام بسلطة، لئن كانت تتحمل المسؤولية في تشجيع الانسلاخ عن الهوية العربية الإسلامية لا تقبل البتة أن ينافسها طرف على مجال. أما أن تهمشه أو أن تسيطر عليه وتحتكره. لقد كان الفشل في ضبط الأدوار بين الدولة وبين المجتمع في تنظيم المجال الديني عاملا من عوامل التوتر بين السلطة وبين الإسلاميين الذين ما فتئوا يؤكدون عدم احتكارهم للصفة الإسلامية واستعدادهم لتجنب تسييس المساجد دون أن ينسحبوا منها خاصة إذا فسح لهم مجال التعبير والمشاركة في الحياة العامة. لكن احتفاظهم بالصفة الإسلامية وإصرارهم على الجمع بينها وبين الصفة الإسلامية جعل الدولة وحزبها الحاكم يتصرف بعقلية حروب الاسترداد وتستعمل سلطة القانون لإبعاد خصومها وطردهم خارج تلك المناطق المحرمة بل تجريم أي مبادرة مستقلة للنشاط في ساحتها.
وبالمقارنة مع بعض التجارب المجاورة (مثل المغرب) التي تحرص الدولة على أن ترسي شرعيتها على الدين يبدو أنها كانت أكثر نجاحا وواقعية في تنظيم الأدوار بين المؤسسة الدينية الرسمية والمؤسسات الأهلية. وقد سهل لها ذلك عملية الإدماج السياسي للتنظيمات الإسلامية وتقوية اللحمة الاجتماعية والجبهة الداخلية والمصالحة مع الهوية وتأهيل المؤسسة الدينية لأداء وظائفها الروحية والثقافية والأخلاقية والاجتماعية. وتخطي االتلازم العكسي بين قوة الدولة وضعف المجتمع أو ضعف الدولة وقوة المجتمع. لقد فشلت التجربة التونسية في تحييد المجال الديني من خطاب ودور عبادة وإطار ديني وذلك رغم تسييجه بالإجراءات والتراتيب التي تجعله فاقدا لوظيفته الاجتماعية والأخلاقية والثقافية ملحقا بالوظيفة السياسية كجهاز من أجهزة القمع الإيديولوجي والسيطرة على مجال من أهم المجالات الرمزية التي تأخذ بعدها الحقيقي بالأشواق الروحية وبحرية التعبير والتلقائية سواء تعلق الأمر بالعبادة الفردية أو بالعبادة الجماعية في أبعادها الشخصية أو الاجتماعية الإنتروبولوجية.
وقد يكون اقتحام الدولة لهذا المجال واحتكاره وكبت أي تعبير حر ومستقل في فضائه الرحيب رغم أنها تعيب على خصومها الإسلاميين استعمال الدين لأغراض سياسية هو من أخطر الأدوار التي تلعبها من أجل الحفاظ على هويتها الأصلية كدولة منتدبة للتغريب والتحديث لا مستأمنة على الدين والهوية. لذلك يرفض النظام تقديم أي تنازل أو أن يحيد عن هذا الصراع رغم دعوات المصالحة وإشارات الطمأنة التي يرسلها الإسلاميون في حركة النهضة للتمايز عن إشارات التحذير والتهديد التي أرسلتها المجموعة السلفية التي لجأت إلى المواجهة المسلحة مع السلطة في أحداث سليمان الأخيرة. وفي ظل عالم متغير لم يعد فيه يسمح للدولة أن تحتكر التدخل في قضايا المعتقد وحرية العبادة ويزداد الوعي بضرورة التمييز بين الخطاب السياسي المباشر والخطاب الديني المتعالي على الصراعات الفئوية قد يكون من واجبات الدولة إعادة تنظيم الأدوار واحترام استقلالية الدعاة وتوفير شروط تأهيلهم العلمي وفتح دور العبادة أمام المؤمنين دون قيود إلاّ الضوابط المنصوص عليها في الدين نفسه ومجمع عليها بين أهل العلم ومن أوكد واجباتها أيضا ضمان حرية العمل السياسي وحق التنظم للراغبين في ذلك. واعتبار الدفاع عن الهوية والصدور عنها حق مشترك لا إقصاء فيه، غير أننا لم نلمس لدى السلطة غير الإصرار سياسيا وأمنيا على إبقاء سقف طموحات حركة النهضة جد منخفض. وكلما سعت هذه الأخيرة إلى رفع الطوق إلاّ ووُوجهت بحزم تعده قسوة غير مبررة واستمرارا لسياسة جاوزت في أوج انتهاجها حدود المعقول في غطرستها واستخدامها المفرط للردع والكبت والهرسلة.
إنهاء القطيعة بين الاستحالة والإمكان
تعالت خلال السنوات الأخيرة الدعوات لطي صفحة الماضي وتنقية المناخ السياسي والاجتماعي وفتح آفاق في العلاقة بين السلطة والإسلاميين وبين الإسلاميين والعلمانيين. إنّ ثمة مراجعات متأكدة لدى كل الأطراف عدا السلطة التي لا تفصح عن حقيقة موقفها ولا يلمس لديها تغيير جوهري في السياسة وفي المواقف. ولكن يلاحظ تغير نسبي في اللهجة وفي المعاملة. فقد دعى الوزير السابق محمد الشرفي خصم الإسلاميين لسنوات وحليف السلطة في مشروع تجفيف المنابع إلى الاعتراف بحركة النهضة في سنة 2002 معتبرا أنّ الدولة التونسية تحتمل وجود الإسلاميين ودافع عن تمثيل لهم في المؤسسات النيابية بما في ذلك البرلمان بنسبة تقارب النسبة التي حصلوا عليها في الانتخابات التشريعية لسنة 1989 والتي شاركوا فيها بقائمة مستقلة.
كما حاول الهاشمي الطرودي أحد منظري اليسار البارزين في كتابه مأساة بغداد التأصيل الفكري والسياسي لائتلاف إسلامي وطني ديمقراطي من أجل دمقرطة الدولة والمجتمع وتكوين كتلة تاريخية تحمل على عاتقها مشروع النهضة الذي أخفق بسبب الفصام بين المهمة الديمقراطية والمهمة الوطنية. وقد وجد هذا التأصيل ترجمته الفعلية في تشكل هيأة 18 أكتوبر رغم تعثرها ورغم أن ما ورد في كتابه المذكور لم يأخذ حظه من النقاش.
ونلاحظ تطورا نظريا وعمليا ملموسا في مواقف عديد الأحزاب وزعاماتها باتجاه الإقرار بحق الإسلاميين في الوجود السياسي شأنهم شأن باقي الأطراف.
قد يشكك البعض في مبدئية بعض المواقف الداعية لإنهاء الحظر والحصار على حركة النهضة واعتبارها طرفا وطنيا يعترف بحق الاختلاف ولا يحتكر الحقيقة ويعترف بحق الجميع في الوجود والتنظم والمشاركة ولكن تطور الأوضاع يتخذ مسارا نحو التعامل مع الإسلاميين كأمر واقع. والتواصل مع رموز حركة النهضة في حدود ما تسمح به الأوضاع الأمنية والسياسية بما لا يمنع إمكان توقع المزيد من غض الطرف على الأنشطة "غير المخلة بالنظام العام" وغير المؤدية إلى انتزاع المبادرة من السلطة أو التأثير المحسوس في موازين القوى.
إنّ عقد التسعينات كان هو الأسوأ في علاقة حركة النهضة بالسلطة إذ سخرت كل إمكانيات الدولة من أجل تفكيكها وعزلها وفرض أعلى درجات الحظر على أنشطتها. بل وفك أية روابط اجتماعية وإنسانية بين أنصارها وقد تعرضت في هذا الإطار إلى ما لم تتعرض له أي حركة سياسية وإيديولوجية في البلاد منذ قيام "النظام الجمهوري". وكأنما نسيت الدولة أنّ إسلاميي حركة النهضة مواطنون تونسيون لا يكنون لها عداوة بدائية بقدر ما كانوا يبحثون لهم عن مكان في ظل سلطتها التي ما فتئوا ينشدون اعترافها بهم حتى وإن كانت شرعيتها تبدو لهم منقوصة. وأنّ هاجسهم الأصلي لم يكن هاجسا سياسيا بقدر ما كان هاجسا أخلاقيا وثقافيا حتى وإن لم تتبلور رؤيتهم الثقافية. وأنّ ذلك الهاجس الأصيل على عمومه مهما بدا غير منسجم مع هوية الدولة المنتدبة للتغريب والتحديث يظل هاجسا لتيار من تيارات الإحياء الديني والحداثة ينشدها على غير الصيغة الغربية الحصرية والقسرية والتي يصعب فصلها عن سياقها التاريخي الأوروبي. وأنّ المنضوين ضمن تيار الإحياء الإسلامي مهما كانت مرجعيتهم الفكرية هم إلى حد ما ثمرة المنظومة التعليمية التونسية بهناتها وإيجابياتها دون أن نتجاهل أنّهم نهلوا من معين ثقافة إسلامية لم تكن تقدمها المدرسة والجامعة التونسية. إلّا أنّ التدين المشوب بالهم الحضاري والممزوج بالبعد الحركي السياسي ليس فقط نتاج تلك الثقافة وإنّما هو حاجة اجتماعية وثقافية أصيلة وطارئة ملازمة للمجتمع ومتأثرة بتحولاته طامحة إلى التأثير فيها وأنّ صده والتنكيل به لن يجعله أقل تجذرا وخطورة أو أقل انتشارا إلّا بصفة مؤقتة. بل إنّ الضغط المستمر والمفرط إذا جاوز حدود الاحتمال والقدرة على التكيف من شأنه أن يولد الظاهرة الاستشهادية والعنفية منهجا في التعامل الوجودي مع الدولة والمجتمع.
إنّ الدولة تجاهلت أنّ هويتها من هوية المجتمع وليس العكس وأنّ تلك الهوية إذا كان ينبغي لها أن تستمر فهي في حاجة إلى أن تثرى وتتطور. وأنّ الإبقاء عليها كهوية منفصمة (التغريب والتحديث القسري) سيضعها حتما على خط القطيعة مع الديناميكية الداخلية للمجتمع الذي أرادت صياغته تعسفا عكس مساره الطبيعي فتتحول بذلك إلى دولة قانعة قاهرة لا دولة تحديثية ضامنة للحرية صانعة للتنمية. ومن المفارقة أن تصبح الدولة خطرا على السلم المدني والوفاق الأهلي عوض أن تكون مجسدة ومحققة له في أرقى مظاهره باعتبارها دولة كل مواطنيها لا قسم منهم فقط.
النهضة والسلطة، حتمية المراجعة
إنّ كلا من حركة النهضة والسلطة يشعران في تقديري بصعوبة ترتيب العلاقة بينهما في ما يمكن أن نسميه مرحلة ما بعد السجن. ويبدو أنّ الإسلاميين بعد سنوات القطيعة والمواجهة مع النظام وبعد أن يفترض فيهم أن يكونوا قد قاموا بتقييم تجربتهم السياسية وطبيعة علاقتهم بالسلطة وبقوى المجتمع وأطراف المعارضة واستحضارهم للتحديات الداخلية والتحولات الإقليمية والدولية ساعدهم على ذلك الاستقرار والإقامة لسنوات في بلدان أوروبية وغربية ديمقراطية متقدمة، صاروا أكثر تفهما لحاجة البلاد إلى الاستقرار والمصالحة وحاجة الدولة إلى تطوير نفسها وإثراء هويتها الوطنية دون فقدان مميزاتها الحداثية أو الذوبان في عولمة تكنس الهويات كنسا ولا تقيم اعتبارا لسيادة الدول. وإنّ تحصين الجبهة الداخلية من مستلزمات الحفاظ على الوجود الوطني دون أن يكون ذلك على حساب حرية تمتعوا بمزاياها في بلدان الإقامة وحرم منها إخوانهم في وطنهم. لذلك اتسم الخطاب السائد لرموز النهضة في الداخل والخارج خلال السنوات الأخيرة بجعلهم المصالحة الوطنية الحقيقية ومناهضة العولمة الشرسة والهيمنة قضيتهم، دون أن يتنازلوا عن حق حركتهم في الوجود كطرف وطني إلى جانب باقي الأطراف. ودون التخلي عن مطلب الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ورفظ الاستبداد والالتزام بالدفاع عن الهوية العربية الإسلامية. كما يبدو أنّ الدولة والحزب الحاكم والأطراف الحليفة لهما تبدي اهتماما أكبر بالنقاشات الدائرة في الساحة الإسلامية والتي تنقلها مواقع الإنترنت بغثها وسمينها وهي تعكس رغبة النهضة بالظهور في ثوب جديد ومساعي جدية لتطوير نفسها من الداخل وتأكيد حضورها ضمن المشهد السياسي الوطني في تعايش ووفاق مع الأطراف المستعدة للقبول بها والعمل المشترك معها ولا يمكن للسلطة أن تتجاهل ما تؤكده حركة النهضة وتبديه من استعداد مبدئي للاستمرار في خيار نبذ العنف والازدواجية والحرص على إظهار أكبر قدر ممكن من الوضوح في المواقف والبرامج، والواقعية في التعاطي مع الشأن الوطني لا باعتبار ذلك من شروط السلطة أو غيرها من الأطراف، وإنما باعتباره من مقتظيات التطور الطبيعي لحركة كانت تتطلع حتى قبل محنة 1991 إلى الانتقال إلى وضع العلنية الكاملة، والقانونية ببدائل وبرامج واضحة ومفصلة. وقد أعاقت المحنة وملابساتها ذلك التطور الطبيعي ولكنها لم تحرف حركة النهضة عن سمتها الذي عرفت به فلم تفرخ داخل السجون وفي المنفى تكفيريين أو متشددين.
لكن لا بد من الملاحظة بأنّ السلطة لم تبد إلى الآن أي إشارة تفيد إمكان قبولها بحركة النهضة في نسختها القديمة حتى وإن كانت النهضة في الشكل والمضمون الذي عرفت به في الماضي ولا نتصوره واردا ولا ممكنا لا تمثل مشكلا داخل المجتمع التونسي الذي ألفها وألفته والذي يعرف اليوم أشكال تدين اجتماعي عفوي على درجة من التنوع يصعب معها مطابقته بأي نموذج سائد أو وافد أصيل أو دخيل. ويعتبر النموذج النهضوي بالمقارنة معها أشد أصالة وتماسكا وأكثر قدرة على التواصل والاستمرارية وإنّ الدولة من مسؤوليتها مراعاة ذلك التنوع والتغاضي عنه إلّا اذا جاوز مبدأ التعايش والتسامح الذي يمكن أن يكون عنصرا أساسيا في هوية الدولة يعدل من غلواء التغريب المفروض والتطرف العلماني اللاديني ومن شراسة التحديث القسري.
وبقدر ما تراجع الدولة خيار "الكل الأمني" في التعامل مع الإسلاميين وخيار الفرض التعسفي لنمط من التحديث لا يكون مخصبا خارج سياقه وتفسح المجال لحرية التعبير والإبداع وتقحم مبدأ التسامح كلبنة في بناء هويتها، كلما أمكن تحول النظام نحو مزيد من الانفتاح وأمكن توفير شروط إرساء مصالحة وطنية يستفيد منها الجميع ويكون الإسلاميون أحد أطرافها. اذ لا تصور لمصالحة تحقق ثراء هوية الدولة وتحديث المجتمع بدونهم وإلّا فسيستمر ترحيل الأزمة ويتكرر سيناريو القطيعة.
إنّ المشهد السياسي في تونس لم يتغير بعد مرور عشرين عاما من عمر نظام السابع من نوفمبر. ولكن معطيات كثيرة تغيرت. من ذلك أنّ رغبة حركة النهضة في الانفتاح على كل الأطراف خيار أكثر مما هو تكتيك مرحلي وسعي للتعايش مسار ومنهج بقدر ما هو حاجة ربما تقدر أنها حاجة وطنية واجتماعية لا حاجة حزبية فقط كما يمكن أن نستنتج من دفع رموزها وقادتها عن أنفسهم مسؤولية إفشال محاولات التجاوز وإلقائها على النظام أو اعتبار إلقاء التبعة عليها في استمرار القطيعة عملية تسويق من سلطة تريد تأجيل المعالجة السياسية لملف الحركة من المؤشرات القوية على أنّ لديها الاستعداد لتقبل صيغة حل ممكنة تشابه من قريب أو بعيد صيغ المشاركة التي تم التوصل إليها في أقطار عربية أخرى.
إنّ أحداث غزة الأخيرة وردة الفعل الشعبية في البلدان العربية والإسلامية بقدر ما أظهرت اتساع الفجوة وعمقها بين الأنظمة والشعوب فإنها كشفت مدى تجذر التيارات الإسلامية، وحدة الإحساس بتحدي الهوية ستشجع لا محالة على البحث عن سبل تجسير العلاقة بين الأنظمة والنخب والجماهير. وسيكون من أولويات السماح بحرية التعبير على أوسع نطاق ممكن تفاديا لانتفاضات شعبية وانفجارات اجتماعية لم تعد مستحيلة. إنّ تحولا ما بصدد الحصول داخل المجتمعات العربية مثل التقارب بين التيار الإسلامي والتيار العروبي وهو مقدمة لإعادة تشكل المشهد السياسي العربي كما أن تجربة تشريك الإسلاميين من موريتانيا إلى ماليزيا والتي جاوزت العقد والنصف في بعض الأقطار وأثبتت جدواها في مواجهة التحديات ستكون بالتأكيد قابلة للتعميم مع بعض التأخير وخصوصية في التنزيل.
ويرى بعض الباحثين بأن أسباب أخرى غير الأسباب الهيكلية التي أبرزناها في هذا البحث سترشح الحياة السياسية في تونس إلى التطور في اتجاه المصالحة الوطنية مما نعده تفاؤلا مفرطا فيه قفز على الكثير من العقبات والصعوبات لكنه سيناريو نورده للقارئ على سبيل الاطلاع حتى لا نكون قد أغفلنا بعض الجوانب التي يراها البعض ذات تأثير في تطور الحياة السياسية في بلد كتونس له خصوصية إن لم نقل يحكمه منطق خاص. يقول الباحث العربي صديقي "إنّ ما سيكون مهما في تونس بين العامين 2009 و2014 ليس كيف جاء بن علي إلى السلطة قبل اثنين وعشرين عاما ولا كيف فاز في انتخابات العام 2009، بل ما اذا كانت سنواته الخمس الأخيرة مكنت من تحقيق مصالحة وطنية وأفضت إلى عملية تحول ديمقراطي وما اذا كان قادرا على الالتزام بخروج مشرف وديمقراطي في العام 2014 اذ أنّ مثل هذا الخروج سيضمن له مكانا مهما في تاريخ تونس السياسي" [11]
* فصل من كتاب "الإسلامية في تونس" الصادر عن مركز الدراسات الإماراتي المسبار
[1] Jean Ziegler – Retournez les fusils! – Editions du seuilParis 1981 (p111)
[2] Yadh Ben Achour - L'état nouveau et la philosophiepolitique et juridique occidentale – Imprimerie officielle de la republiquetunisienne 1980 (p443)
[3] المستقبل العربي، حوار مع مصطفى الهلالي – تشرين الأول (أكتوبر) 2007 العدد 244 مركز دراسات الوحدة العربية (ص85)
[4] نفس المرجع
[5] ديباجة الدستور الجزائري سنة 1963 أورده عياض بن عاشور. مرجع سابق (ص321)
[6] Jean Ziegler – Retournez les fusils ! (p150) مرجع سابق
[7] عياض بن عاشور – مرجع سابق (ص351)
[8] عياض بن عاشور – نفس المرجع (ص303)
[9] Sophie Bessis, Souhayr Belhassen – Bourguiba - Jeune afrique livres 1988
[10] Habib Achour – Ma vie politique et syndicale – Alif 1989
[11] العربي صديقي – التحدي الديمقراطي في الولاية الأخيرة لزين العابدين بن علي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.