فقد الجيش التركي في السنوات الأخيرة قدرا كبيرا من نفوذه في مجلس الأمن القومي، تحت ضغوط من جانب الاتحاد الأوروبي، فلم يعد جنرالات الجيش يمثلون الأغلبية في هذا الكيان القوي والفعال، ولم تعد الكلمة الأخيرة لهم كما كان الأمر لعقود طويلة. وبالرغم من الحد من النفوذ الاقتصادي للجيش إلا أنه مازال يعبر عن حضوره، خاصة في الشهور الأخيرة. كان الجيش التركي في العشرينيات من القرن الماضي، أحد أهم الأعمدة التي ترتكز عليها الجمهورية التركية، التي أسسها "كمال أتاتورك". وحتى يومنا هذا يرى الجيش أن أهم مهامه هو الدفاع عن الفصل الحاد بين الدين والدولة. الجنرال "ياسر بايوكانيت"، القائد الجديد للجيش، لا يترك فرصة دون أن يحذر من المخاطر التي تواجه الدولة العلمانية:"أليس هناك على قمة هذه الحكومة من يريدون إعادة صياغة وتعريف الدولة من جديد؟ ألا نجازف بهذه الطريقة بالمبادئ الأساسية التي بنيت عليها الجمهورية؟ ألا يجب علينا الدفاع عنها بكل السبل؟". بهذه الأسئلة المنمقة وجّه الصقر "بايوكانت" مراراً سهامه إلى حكومة رئيس الوزراء "أردوغان"؛ فالتوجهات الإسلامية لحزب العدالة والتنمية الحاكم تثير شكوك الجيش وارتيابه. فضلا عن ذلك أعلن رئيس البرلمان التركي صراحة عن احتمال إعادة تعريف علمانية الدولة التركية. يتخوف الجيش من أن يقوم حزب العدالة والتنمية في العام المقبل بترشيح رئيس الوزراء لرئاسة الجمهورية، وهذا مما يصعب على الجيش العلماني هضمه حسب "جيرالد كناوس" من مبادرة الاستقرار الأوروبية، وهي معهد استراتيجي دولي في إسطنبول. ترتدي زوجة رئيس الوزراء الحجاب، وهو رمز إسلامي محظور في أجهزة الدولة التركية الرسمية والمرافق العامة. ولو أراد "أردوغان" أن يكون رئيسا لوجب على زوجته أن تترك حجابها في المنزل، أو وجب على حكومة "أردوغان" تعديل القانون بالنسبة إلى هذه القضية. ولا يمكن للحكومة إنجاز هذا التعديل بدون موافقة الرئيس التركي الحالي"نجدت سيزار" الذي لا ينوي قبول مثل هذه التعديلات. ويبدو الجدال هنا مغرقا في التفاصيل، ولكن مازالت قضية الحجاب قضية حساسة جدا في تركيا، وخاصة في نظر الجيش. ويرى "كناوس" أن الجنرال "بايوكانيت" يريد أن يطلق تحذيراً بتصريحاته النارية هذه؛ فالجيش يأمل في أنه بهذه التحذيرات سيمنع ترشيح "أردوغان" أو أحد محازبيه لرئاسة الدولة في العام القادم. فمن الناحية العملية سيكون بوسع حزب العدالة - صاحب الأغلبية الواسعة في البرلمان- أن يوصل "أردوغان" إلى سدة الرئاسة. هناك من المحللين السياسيين من يرى أنّ الجيش يسير باتجاه ما، يمكن تسميته ب "انقلاب أبيض" ضد حكومة "أردوغان"، وأن الجنرالات يسعون إلى إجبار "أردوغان" على الاستقالة، كما فعلوا في عام 1997 مع رئيس الوزراء آنذاك "أربكان". وقد حُظر حزب "أربكان" ذو التوجهات الإسلامية بعد عام من استقالته. لكن انقلاباً كهذا يبدو صعباً ضدّ الحكومة الحالية التي تتمتع بدعم شعبي واسع. حتى خصوم "أوردغان" يعترفون بأن بلادهم لم تشهد منذ فترة طويلة حكومة مستقرة كهذه الحكومة؛ فالاقتصاد ينمو بسرعة لا سابق لها، ورئيس الوزراء "أردوغان" تمكن من أن يشق طريقه نحو أوروبا بخطوات واثقة عبر سلسلة إصلاحات جريئة. هذه التوجهات تحظى أيضاً بدعم الجيش. حين يتعلق الأمر بعلاقة مع أوروبا فإن الجيش و"أردوغان" حليفان لبعضهما. يحذّر الجيش التركي من خطر الأصولية الإسلامية، لكنّ "أردوغان" ينفي وجود مثل هذا الخطر أصلاً. ويتفق معه "جيرالد كناوس" في الرأي قائلاً:"لقد نشأت طبقة وسطى جديدة في تركيا، هي أكثر تديناً من النخبة القديمة، لكنها لا تقل عنها اندماجاً في المجتمع العلماني واقتصاد السوق، كما أنها تدعم توجهات "أردوغان" للتقارب مع أوروبا. أما إذا اعتبرت النخبة القديمة النقاشات الدائرة حول غطاء الرأس علامة أصولية، فهذا يعني أنهم يطاردون أشباحاً لا غير. ولم يخف "كناوس" خشيته من أن يؤدي تعثر المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبي إلى اتساع الهوة بين الطرفين؛ وهو ما سيلحق ضرراً بمسيرة الإصلاحات هناك. *