كانت سنة 2006 من النوع الذي يمكن تسميته "سنة كل المخاطر" بامتياز، أخطر ما فيها أن السياسات التي يفترض أنها قيادية دولياً، سقطت بجدارة في أوحال الفشل، حتى أنها -أميركياً مثلاً- فقدت البوصلة واحتاجت إلى نصائح لجنة "بيكر-هاملتون"، إلا أنها تعاند الأخذ بها، وتفضل إدارة الإخفاق على اتباع حلول تتطلب منها تنازلات. تكفي الإشارة إلى تصاعد الانقسام والتنافر المذهبيين، لإدراك أن تلك المخاطر لا تزال في بدايات تشكلها. فالهواجس التي يشيعها البرنامج النووي الإيراني، أو تتفاعل دموياً في العراق، أو تعتمل سياسياً واجتماعياً في لبنان، أعادت المنطقة إلى أجواء بدايات الثورة الإسلامية في إيران، بل لعلها جددتها، مع فارق أن إيران استفادت هذه المرة من أخطاء الماضي، وباتت ممسكة بمختلف الأوراق الإقليمية وتخوض معركة متعددة الوجوه لاستعادة نفوذها كما في أيام الشاه وأكثر. كانت السقطة الكبرى لمشاريع الدمقرطة والإصلاح، ربما يقول البعض إن هناك خطوات تتحقق على هذا الصعيد، إلا أن حقيقة بروز التيارات الإسلامية والتأييد الواسع الذي تتمتع به في المجتمعات الشرق أوسطية، جعلا الولاياتالمتحدة تتراجع تلقائياً عن ضغوطها لنشر الديمقراطية، حتى لو حافظت على هذا الخيار كمحور لسياساتها في المنطقة. في المقابل انتصر النهج الأمني بما ينطوي عليه من انتهاكات لحقوق الإنسان وتعديات على القوانين، وكذلك بما يعنيه من اعتماد على أنظمة وحكومات أثبتت عقمها بمقدار ما برهنت على محدودية رؤاها المستقبلية. لاشك أن الحرب الإسرائيلية- الأميركية على لبنان، كانت من علامات 2006 الفارقة تاريخياً واستراتيجياً، فهي شكلت مواجهة أولى مع الخصم الإيراني، وانتهت إلى نتيجة مبهمة ليس أقل ما فيها أن القوة الإسرائيلية واستخدامها الوحشي المفرط لم يتمكن من حسم المعركة. في المقابل لا يزال الدمار الكبير الذي أصاب لبنان شاهداً، على رغم أن المواجهة لم تنتهِ، رغم تكلفتها الباهظة. لكن هذه الحرب أشارت بقوة إلى أن "الشرعية الدولية"، باتت بلا ضمير ولا أخلاقية، بعدما أخفقت طوال أسابيع في الدعوة إلى وقف إطلاق النار. هذه اللاأخلاقية نجدها مفعّلة بوضوح في الشأن الفلسطيني، إذ أن ما تسمى "الرباعية الدولية" تسلمت غداة الانتخابات الفلسطينية، مهمة دعم جهود قوة الاحتلال الإسرائيلية في محاصرة الشعب الفلسطيني وتجويعه وإفساد حياته عقاباً له على اختياره حركة "حماس" لقيادة السلطة الفلسطينية. وإذ أكدت "الرباعية" أنها ترفض التعامل مع من تعتبرهم متطرفين، فإنها لم تنجح سابقاً في التعامل مع المعتدلين، ما يعني أن مهمتها غير المعلنة وغير المعترف بها هي إدامة الاحتلال. أما الفشل الدولي الصارخ، فتجلى في العراق، وهو هنا فشل أميركي مباشر ومكشوف، ليس فقط أمنياً بل سياسياً أيضاً. وبدل أن تقدم التجربة العراقية نموذجاً ديمقراطياً للمنطقة، إذ بها تهدد بتعميم الفوضى والإرهاب وتقسيم الكيانات القائمة. ثم إن الاقتتال الأعمى بين السُّنة والشيعة آخذ في إشاعة مؤثراته في كل اتجاه. وبات مؤكداً أن مؤدى هذا الاقتتال هو تحديد حدود الكيانات أو الدويلات الجديدة وترسيمها، أكثر مما يسعى إلى الحفاظ على العراق الذي نعرفه وعلى وحدته أرضاً وشعباً. وهناك بؤرتان مفتوحتان على كل الاحتمالات في السودان والصومال، تجري فيهما مناورات نفوذ تستغلها الولاياتالمتحدة بحضور إسرائيلي، بغية التحكم بمنطقة القرن الأفريقي واستخدامها لمحاصرة الجناح العربي في هذا الإقليم، وهذا ما استوجب إحياء دور إثيوبيا وفقاً للشروط التي كانت وضعت أوائل التسعينيات. على رغم وضوح المصلحة في الاستقرار، إلا أن السياسات الأميركية -تحديداً- تميل إلى تفعيل الصراعات لا إلى معالجتها، وطالما أنها لا تزال تبحث عن "نصر" ما تستند إليه لمواصلة استراتيجيتها الخاطئة، فإن شعوب المنطقة لا تزال مدعوة لدفع ثمن هذا التخبط الأميركي.