علي أقلام الكتاب والمؤرخين العرب أن تسكب حبرها بغزارة هذه الأيام علي سجلات التاريخ العربي المعاصر الذي يعرف هذه السنوات تحولات خطيرة، حيث تعددت القوي المتصارعة علي اقتسام تركة دولة الاستقلال التي لم تستطع أن تحافظ علي ما تسلمته من أيدي أبطال معارك التحرير منذ خمسينيات القرن الماضي. حبر لا شك أن بعضه سيكون مضمخا بالدماء والدموع، لكن الغالب أن إرادة الحياة ستنتصر علي هوس الموت الذي تروج له عصابات لا تعيش إلا في ظل الصراع المحموم. وربما يكون أشقاؤنا في الخليج العربي ولا أقول الفارسي كما عن لوزير الدفاع الأمريكي الجديد روبرت غيتس أن يصفه، هم أكثر الناس حاجة ومسؤولية لاجتراح خيارات تحفظ للعالم العربي استقلاله وتحمي هويته من الاندثار وسط هويات جارفة لا تستطيع قصائد الشعر ولا حتي مقاطع الروايات التجريبية الحديثة أن تواجهه. فجأة سارع البرادعي إلي التبشير بخطوة إيرانية تحتاج كل التنويه بإعلانها الفعلي عن استعدادها لاستقبال متفقدي البرنامج النووي، قبل أن تتهاوي كل التوقعات خلف إصرار دولي علي إخضاع إيران عنوة للموقف الأمريكي والغربي الرافض لمنحها حق دخول نادي الدول النووية. كما باغتت الديبلوماسية السورية المجتمع الدولي بربط علاقات ديبلوماسية ظلت مقطوعة لعقدين من الزمن مع الشقيق العراق، وهو ما يوحي بأن ثمة ما يدور في الكواليس من صفقات إقليمية كبري قد ترسي المنطقة علي قاعدة صلبة وواعدة يخفف فيها الغرب بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية من تدخله السافر في الشؤون العربية وذلك علي مدار قرن من الزمان. ولا أظن عاقلا يصدق بأن النظامين الإقليميين في سورية وإيران قد أقدما علي مثل هذه التنازلات في ظروف دولية عصيبة بأتم ما في الكلمة من معني، وإذا ما صدقت ظنوني فإني أجازف بالقول بأن الأيام المقبلة قد تري أنشطة ديبلوماسية عقلنها الواقع الآسن في البلد المنكوب. وهذا ما يحيلنا علي الحديث من جديد علي أن الفيتنام المشترك تصلح اليوم أن تكون محطة لتصفية الحساب النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين ومن ثم ترتيب شكل جديد من التعايش بين إسرائيل وإيران مرورا بالحل الذي لا بد منه وقبل كل شيء وأقصد العمل الفصل في هذا الدمل الدولي الذي نخر كيان المنطقة منذ ستة عقود، وأحسب أن الوزير الأول البريطاني توني بلير الذي رفع شعار الدولتين المتجاورتين، والذي أجلت الحرب القذرة في العراق حقيقة بديهية وهي أنه لا استقرار بالمنطقة ولا سلاما عالميا يمكن الاطمئنان إليه دون البت وبشكل نهائي في ما يهز منطقة الشرق الأوسط من أعاصير بعضها ذاتي والبعض الآخر موضوعي أملاه التغيير الاستراتيجي الخطير الذي انخرم بسقوط الكتلة الشيوعية التي كانت مصدر توازن عالمي ضمن قدرا من التوازن والاستقرار علي المستوي العالمي. من الغباء السياسي الاعتقاد بأن دول المنطقة التي تحالف بعضها مع الغرب وساند مخططاته في المنطقة، وهو تحالف كان في أغلب الأحيان علي حساب شعوب المنطقة، بل كثيرا ما كان هذا التحالف في غيابها وضد قوتها وضد مقوماتها الحضارية، بل في صدام صارخ مع جميع مكوناتها الثقافية، أقول من الغباء السياسي الاعتقاد بأن دول المنطقة العربية لا تعرف أنها تقف علي أعتاب مرحلة جديدة للأسف، لن يكون لها أن تفعل فيها إلا من باب الوقوف علي الربوة والشهادة علي إعادة رسم للخارطة السياسية وفقا لمنطق الغالب. وإذا كنت لا أشك في نوايا توني بلير فيما يتعلق بمسألة الدولتين، إلا أن ما ينغص علينا هذا الإحساس هو سياسة التسويف أحيانا والتجاهل وعدم الجدية في التعامل مع إسرائيل التي أجلت كثيرا مستحقات السلام وتلاعبت بالكثير من القرارات من أجل تأجيل ما ليس منه بد. بل إن الأمر تجاوز التسويف إلي مرحلة الضخ في بوق الفتنة الداخلية التي تلوح نذرها في سماء الأراضي الفلسطينية هذه الأيام. فلكي تصدق جماهير المنطقة وشعوبها ما تبشر به الديبلوماسية الغربية وخصوصا البريطانية منها والأوروبية، مشروع الدولتين فإن علي قيادة الاتحاد الأوروبي أن تدرك أن المنطقة متعطشة إلي بناء سلام ليس في العراق المحترق فحسب، بل إن طريق هذا السلام لا بد أن يمر من القدس أولا. أما الولاياتالمتحدة التي لا تزال اللاعب الرئيس علي معظم المستويات خصوصا في منطقة الشرق الأوسط والتي فقدت ميزة الوسيط النزيه خصوصا بعد غزوها للعراق واستئثار النيوكنزيين الجدد برسم السياسات الدولية، فإن المطلوب منها عاجلا هو إعادة ربط علاقتها بجميع دول المنطقة والسعي من ثم إلي إيجاد حل لا للعراق فحسب، بل للحسم في كل الملفات الساخنة التي ليس بوسعها التأجيل لمرحلة ما بعد بوش، كإعادة رسم علاقات علي أساس الشرعية الدولية وما تضمنه مواثيق الأممالمتحدة من إقامة علاقات ديبلوماسية معقولة بين كل من سورية وإيران التي لا يمكن القفز عليهما بأية حال من الأحوال كما دلت علي ذلك التجارب. كما نظن أن من واجب دولة كبري بحجم الولاياتالمتحدة أن تتخلص من نزعة الكبرياء الكاذب وتمديدها من موقع القدرة إلي كل حلفائها حتي أولئك الذين يخالفونها وجهات النظر ليس من أجل صيانة ماء وجهها في العراق، ولكن من أجل مصالحها، وقبل ذلك من أجل مصالح شعوب المنطقة الذين دفعت بهم سياسة الحل الأمني الدولي إلي الكره بل إلي التربص بكل ما هو أمريكي. ولا شك أن الديمقراطيين الذين لم تتلطخ أيديهم بالدم العراقي سيكونون أقدر علي المبادرة وليس علي المناورة لتشريك كل الأطراف المعنية مباشرة وغير المعنية بالمسارعة إلي إيقاف النزيف الدموي الخطير في العراق، وعدم السماح تحت أي ظرف لتشظي هذا البلد لأن ذلك سيكون كارثة سياسية قد تتعدي شظاياها الحارقة كل الحدود والتخوم. كما ننبه أشقاءنا في البلدان العربية وشقيقتنا إيران أن الاغتيال السياسي والانتقام غير المباشر من سياسات أمريكا حتي وإن كانت خاطئة في كثير من الأحيان، قد يكون غير ذي جدوي إذا ما وضعنا في الإعتبار أن العالم قد تحول بحق إلي مدينة جامعة إذا اشتكي منها العراق تداعي له كل أجوار العراق. ولهذا نقول من غير تحفظ ان العالم بأسره مدعو كل حسب طاقته إلي أن يأخذ زمام المبادرة فيه رجال المطافئ من أجل أن تنال المنطقة ولو قليلا من الراحة. وحتي لا يتحول موضوعي إلي موعظة أخلاقية فإن الأخلاق والتحضر والقيم كل ذلك جميعا يدعو التحالف الذي شن حربا خاطئة علي العراق إلي الاستعانة بكل الأصدقاء والأعداء إلي إنهاء هذه المأساة بالسرعة اللازمة والتضحيات اللازمة وليس عن طريق الحل الأمني المتسلط. وإذا كان الواقع الفلسطيني والعراقي يثبت بما لا يدع مجالا للشك فشل السياسات الأمنية، فإنه من الخطأ تحميل الطرف الأمريكي السبق في خوض هذه المغامرات التسلطية، كما أنه من غير الصحيح منطقيا القول ان الولاياتالمتحدةالأمريكية وحدها تسلك هذا المسلك، بل لقد سبقها إلي ذلك دول كثيرة في المنطقة لعل أكثرها دموية ما حدث في الجزائر من انقلاب علي الديمقراطية وتدشين مرحلة الذبح المعاكس بين الدولة ومعارضيها. ولم نكد نصدق أن الحريق قد انطفأ حتي اشتعل العراق والآن الأراضي الفلسطينية، وهكذا دواليك. ولا تزال الذاكرة العربية المعاصرة تذكر جيدا فصولا من الصراع الدموي الاستئصالي بين جماعة الإخوان المسلمين المحظورة والحكومات المصرية المتعاقبة، لعل آخرها ما أودي بقيادات الجماعة من الحركة الطلابية إلي العودة مجددا إلي ظلام السجون الدامس بعد معارك انتخابية طلابية ما كان لها أن تتطور إلي سياسات استئصالية الأكيد أنها لن تخدم التحول الديمقراطي ولا الوحدة الوطنية في مصر. وفي بلاد الشام التي تدق طبول الحرب حولها منذ سنوات، لا زالت قلعة حماة تشهد علي معارك ضارية محيت بموجبه مدينة بكاملها وتحولت إلي طلل من الأيام الخوالي. ولا ريب أن إقدام الولاياتالمتحدةالأمريكية علي دعم القوات الأثيوبية وتحريضها ضد اتحاد المحاكم الإسلامية التي امتد نفوذها علي غالبية أراضي الصومال يظهر أمريكا كما لو أنها تقف بالمرصاد لكل نظام سياسي لا تراه مناسبا حتي وإن كان وطنيا ترتضيه غالبية من يعنيهم الأمر. وإذا كان لأمريكا تحفظ علي مشاركة الإسلاميين في الحكم في بلدانهم، فإن مصدق إيران (The old moy) لم يكن إسلاميا يوم خلعته سنة 58 لأنه لا يخدم مصالحها علي الرغم من أنه كان علمانيا حكم إيران بالفاتنة الديمقراطية التي تبشر بها في المنطقة. ومع أنني من الذين يعتقدون أن علي الإسلاميين في الصومال وغير الصومال أن يقدموا إجابات صريحة وواضحة لا تحتمل اللبس في موقفهم من الديمقراطية والتداول السلمي علي السلطة وضمان حرية القول والتنظم السياسي المعارض لأطروحاتهم، من غير عنف ولا إرهاب، فإن واجب السياسيين من الليبراليين واليساريين أن يبادروا إلي كسر الفيتو الديمقراطي ويدفعوا باتجاه السماح لترويض دعاة الإسلام السياسي فبالتجربة والخطأ تتكون الديمقراطية وتنضج، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. ہ كاتب وإعلامي تونسي يقيم في بريطانيا 29/12/2006 -القدس العربي