في برنامج العاشرة مساء كان هناك تقرير عن شجرة علي طريق القاهرةالإسماعيلية.. ظهر لفظ الجلالة محفورا علي جذعها، ليس هذا هو الخبر.. فقد شاهد بعضنا مثلا أجزاء من جبال حفرت عليها عوامل التعرية المناخية ما يشبه وجه إنسان أو قط أو أياً مما يعرفه الناس في حياتهم اليومية بشكل فني جميل، وعلي كل حال يمكنك استخراج عشرات الصور التي حفرتها العواصف الرملية علي مر آلاف السنين علي أجزاء من سلسلة الجبال المحاذية للبحر الأحمر مثلا سواء في الطرف المصري أو ناحية الجزيرة العربية، وهذا المثال بالذات أسوقه لأنني عرفته وعاينته.. فهناك جبل علي الطريق إلي مكة إحدي زواياه تبدو وكأنها وجه فيلسوف يوناني يفكر ويتأمل.. وهو نحت طبيعي بديع، الخبر إذن ليس وجود تلك الشجرة علي طريق الإسماعيلية.. الخبر.. بل الخبر المحزن.. هو تدافع المصريين حول الشجرة لتقبيلها والتبرك بها والتسبيح بمعجزة الله التي تجلت فيها.. وبالمرة.. التضرع لها لعلها تساعد فيما لم تستجب له السيدات عائشة ونفيسة وزينب.. من تضرعات بسطاء المصريين لهن بالتدخل من قبورهن لحل مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية الميئوس من حلها. ولم يفت الأمر طبعا علي تجار (التسبيح بحمد الله)، فقد جاء في تقرير البرنامج أنهم راحوا يصورون الشجرة بالموبايل لبيع كل صورتين بخمسة جنيهات! وفي ذات اليوم كان هناك في جريدة المصري اليوم مقال مؤلم حقا كتبه الدكتور حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة وهو محلل سياسي ووجه معروف في معظم البرامج الحوارية الجادة علي الفضائيات.. في مقاله قال إنه تنقل في أسبوع واحد بين عواصم عربية للمشاركة في ندوات ومؤتمرات منها عمّان وبيروت ثم عاد إلي القاهرة ليتساءل بحزن (عما جري للمصريين) فجعل الفرق شاسعا بين اهتماماتهم واهتمامات مواطني تلك العواصم التي زارها.. رغم أن المسافة بالطائرة لا تزيد عن ثلاث ساعات بينها.. لكنه وجد في بيروت وعمّان وغيرهما اهتماما ولو نسبيا ولو عاجزا ولو متباينا بقضايا مصيرية، بينما تنشغل مصر وتغرق حتي أذنيها في الاهتمام بفتيات هالة شو والتوربيني! هكذا تألم الدكتور نافعة لحال مصر.. أن تصبح علي هذه الدرجة من التسطح والغياب أو الغيبوبة. تذكرت المقال بينما كنت أحاول تأمل وجوه المصريين المتزاحمين حول الشجرة.. في لقطات سريعة تمكن فريق برنامج العاشرة مساء من التقاطها بعناء كما قالت مقدمته مني الشاذلي يسبب الزحام، لابد من وجود أسباب لهذه الغيبوبة التي أوصلت مجتمعنا إلي تلك الدرجة من (الهيافة)! هيافة لا تعبر إلا عن يأس شعب بأكمله من (قيمته الإنسانية ذاتها)، فراح يبحث عن حلول لمشاكله لا عند دولة تنظم بلده.. فقد تفككت تلك الدولة، ولا عند نخبة من مثقفيه.. فقد غيبهم عنه ذهول العجز، ولا حتي عند وسائل العلم التي تراكمت لدي البشرية.. فالخرافة المتمكنة منه باسم الدين تارة وباسم القيم المحافظة تارة أخري تقف بينه وبين العلم واستخدام العقل سدا منيعا، وإنما يبحث ذلك الشعب عن حلول مشاكله عند جذوع الأشجار وقبور الموتي وأذيال الحمير! لابد من وجود حل لمشكلة التفاهة والسطحية تلك، صحيح البحث عن هذا الحل يصيب الجميع بالإعياء.. بل ويرتد في هجمات يأس جديدة متكررة.. حتي أن كاتبا مصريا مشاكسا هو عبد الحليم قنديل قال في مقال له عن بشاعة انتشار الزبالة في كل أرجاء البلد: إنني لست يائسا إنما يأكلني اليأس ! لكن الصحيح أيضا ورغم معاناة البحث عن حل.. أننا جميعا نعرفه! كلنا نعرف أن (للهيافة) رأسا! خربت البلد والبشر وقبعت هناك.. علي تلها! الدولة المصرية التي تفككت ولم يبق منها إلا البوليس لا يمكن أن تأخذ بيد شعب ينكل به يوميا تحالف خفي وعلني بين عدة قوي وجهات خبيثة.. خرافة تعشش في مكامن الجهل.. وفقر يصيب الناس بالذهول.. وعصا بوليسية تسلب الكرامة والأمل من المواطنين، وإعلام بوليسي متخلف يقيل العقل ويرفع وتيرة الجهل والتسطيح والغباء، وفساد سياسي وصل إلي حد العفن، يستفيد لتجميل وجهه القبيح من دعاة دين لم يأخذوا من الدين إلا (مكر القدماء)!.. لا يمكن لدولة هذه أركانها أن يعي شعب تحت سيادتها (قيمته الإنسانية).. بل دولة هذه أركانها من المحتم أن يغرق شعبها في (ثقافة البعير) التي تلهمه بأن حلول مشاكله ليست عند العلماء والمتخصصين وليست في مجلس شعب حقيقي ونظام حر وشفافية ومساءلة وسيادة للقانون.. وإنما عند الشجر والنوق والبعير والأضرحة والقبور! الهدف إذن (بناء دولة مصرية جديدة) أعمدتها الأساسية هي سيادة القانون والمساءلة والشفافية والحرية الحقيقية.. حرية يعبر الإبداع عن نفسه في ظلها.. الإبداع الفني والأدبي والإعلامي والفكري والثقافي.. فتموت تلقائيا ظواهر العفن.. فلا يعود فيها شعبولا أو شجرة حلالة مشاكل أو صكوك للغفران أو تذاكر منتجعات العالم الآخر! لكن تلك (الدولة الجديدة) من يبني لبناتها وكيف؟! البحث المضني إذن عن (شكل الدولة الجديدة) ليس هو المشكلة.. وإنما المشكلة هي ذلك السؤال الأخير.. كيف؟! (هيافة) التزاحم حول شجرة علي أمل أن تساهم في زيادة المرتبات وحل مشكلة المواصلات والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي، هي (هيافة) تبدو للوهلة الأولي كمشكلة ثقافية.. لكنها بمعطيات الواقع.. مشكلة سياسية حلها سياسي.. الحل السياسي الذي يهدف إلي (بناء دولة جديدة) لا يأتي بطرق عادية.. هناك في تاريخ البشرية فعل اسمه الثورة! والثورة لا يقوم بها الشجر إنما تندلع علي يد البشر، وهؤلاء البشر لا يثورون تلقائيا وإنما يحتاجون إلي تنظيم.. تتجمع إذن عناصر مشكلة (الشجرة المباركة) لتقول في نهاية الأمر أننا في حاجة إلي (تنظيم)! هذا التنظيم ليس كمثل (دكاكين الأحزاب المصرية البلهاء) وإنما.. وإنما في بلد مثل مصر (خربتها الهيافة وقعدت علي تلها).. فإن هذا التنظيم هو الحل لقيادة التدافع الشعبي لا نحو شجرة بلدنا.. وإنما نحو تلها! وراءها ازدواجية إعلامية وازدواجية أخلاقية: فتيات هالة وفساتين هيفاء هناك قناة فضائية لبنانية اسمها (جرس)، بالطبع لا أعرف دلالة هذا الاسم فقد وجدتها بالصدفة.. وكل يوم نجد العشرات من القنوات بالصدفة.. قنوات الصدفة هذه تتوقف عندها عادة.. مرة واحدة! كان علي تلك القناة برنامج مباشر اسمه (عندما يفتح الملف)، مقدمه شاب يبدو صغير السن كثيرا (يعني.. بالنسبة إلينا يبدو صغيرا!) وكانت الحلقة تناقش ظاهرة (الإفراط في التعري) عند الفنانات المشهورات. مقدم البرنامج الشاب كان واضحا وصريحا في مهاجمته بشدة لداء الإفراط في التعري، الذي أصاب هيفاء وهبي وباسكال مشعلاني وروبي وغيرهن، وكان يتلقي اتصالات هاتفية من المشاهدين.. ولم يكن هناك ضيوف في البرنامج يناقش معهم الموضوع المطروح للنقاش.. علي الأقل في الجزء الذي شاهدته، قال المذيع الشاب: باسكال مشعلاني آلت (قالت) هايدي موضة.. باسكال صاحبة صوت جميل وفجأة أررت (قررت) تطلع بهاي الشكل.. هايدا تعري تعري تعري ، أحد المتصلين قال: أعتب علي البرنامج.. الشي اللي عم بينحكي حرام.. لبنان بيكفيه ياللي هو فيه ، متصل آخر قال البرنامج فتنة أكثر منه مناقشة ، ذلك أن البرنامج ربما كي يجذب المشاهدين عرض صورا لهؤلاء الفنانات وغيرهن وكان هناك تركيز بتقريب الكاميرا علي الأفخاذ والصدور والظهور العارية! وهذا شيء يثير التساؤل حقا.. فالفضائيات قد تطرح موضوعا للنقاش يتعلق بقيمة ما من القيم أياً كانت.. والنقاش بين كل من مقدم أو مقدمة البرنامج وضيوفه والمشاهدين يدور حول إعلاء تلك القيمة والهجوم علي نقيضها.. حسنا.. لكن نقطة الجذب في البرنامج تقوم أساسا علي الفعل الذي يهاجمونه! فعن طريق هذا البرنامج انتبهت لفساتين هيفاء وروبي وباسكال التي لم أنتبه اليها قبلا.. وعاينت بتدقيق لأن هذا هو موضوع البرنامج أساسا صدور وظهور وأفخاذ هؤلاء الفنانات! وعلي كل حال.. الصورة أبقي! أبقي في الذهن من الكلمات! خاصة إذا كانت صورا متتالية علي مدي زمن البرنامج، وبعد كل صورة كان المقدم يهاجم هذا التعري وهذا الصدر وذاك الفخذ. في مصر مثلا ينشغل الإعلام بما سماه (فتيات هالة سرحان) عن حلقة مثيرة للجدل من برنامج هالة الذي تقدمه علي قناة روتانا.. كان موضوعها (فتيات الليل)، المثير للجدل ليس هو تناول تلك القضايا فنحن بحق نحتاج إلي (عملية تفكيك) لتلك المنظومة.. (منظومة العيب) المتكلسة التي تصيبنا بداء (الازدواجية) القيمية والأخلاقية.. لكن المثير للجدل حقا هو ذلك البحث عن (الإثارة) في بعض البرامج باسم (مهاجمتها).. نهاجم التعري بينما نعرض العري.. نهاجم الدعارة بينما نعرض أمثلة.. وهذه ازدواجية نراها في كل أوجه حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية.. نهاجم أمريكا ونحلم برضاها.. نهاجم إسرائيل (بصواريخ إعلامية فقط طبعا!) ونتفق معها سرا.. نسلط سيف الدين علي رقاب من حولنا حتي ندميهم.. ونرتكب كل الموبقات.. ازدواجية مرعبة في كل شيء.. بالله عليكم ألم يكن الشاميون مبدعين حقا حينما ابتكروا مثلهم الشامي الشهير.. (نفسي فيه.. وإتفو عليه)؟ كاتبة من مصر