تكمن أهمية البورقيبية، ليس في بعدها التراثي والرمزي فحسب، باعتبارها المخطط والمشرف والمنفذ لمشروع الاستقلال والدولة المستقلة، بل بالأساس في القدرات الكامنة فيها على تجديد العقيدة الوطنية التونسية، بما تعنيه من افتخار التونسيين بوطنهم وتصميمهم على المضي في بناء أسس تقدمه ونمائه وإشعاعه محليا وإقليميا ودوليا، فهذه القدرات المعنوية والإيديولوجية هي خزان الطاقة الفكري الرئيسي للشعب التونسي، وإليه يعود ساعة الأزمات حتى ينهض من كبوة أو يتقوى على صد هجمة أو يربح مواجهة مع تحديات المستقبل. وقد انتصرت البورقيبية في كافة معاركها الفكرية والسياسية طيلة العقود الماضية، سواء في مرحلة النضال من أجل الاستقلال، أو في مرحلة "الجهاد الأكبر" ضد المرض والجهل والتخلف عند بناء الدولة الوطنية، لميزة أساسية تنفرد بها عن كافة العقائد التي قدمت من قبل النخب الايديولوجية الأخرى، فقد كانت حاضنة الوطنية التونسية بامتياز، بل لقد كانت العقيدة الفكرية والسياسية الوحيدة التي يمكن القول أنها ذات مولد ومنشأ تونسيين، في حين تضرب جذور بقية العقائد، يسارية وقومية عربية وإسلامية، خارج التربة التونسية، جاعلة تونس ملحقا بدوائر أكبر، أو هكذا يجب أن تكون، بينما آمن الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة بتونس دولة قومية، وبالشعب التونسي أمة، عليهما أن يتواصلا مع المحيط المغاربي والعربي والإسلامي والمتوسطي و العالمثالثي والدولي دون عقد، ووفقا لما تقتضيه المصلحة القومية التونسية. إن إشارة الأب المناضل الفاضل محمد العروسي الهاني إلى أهمية تضافر جهود البورقيبيين القدامى والجدد من أجل حماية وتنمية التراث البورقيبي، لا شك وأنها في غاية الأهمية، وهي مهمة وطنية سينهض إلى القيام بها عاجلا أم آجلا، لكن الأكثر أهمية في رأيي هو عمل البورقيبيين على استكمال المشروع البورقيبي في تونس، من خلال شرح وبيان نقاط القوة في هذه العقيدة الوطنية، التي يجب أن لا تقل في أعين التونسيين، عما تمثله "الديغولية" للفرنسيين، و"البيرونية" للأرجنتينيين"، و"الكمالية" للأتراك، و"الغاندية" للهنود، و"الماوية" للصينيين..إن شباب تونس بحاجة ماسة اليوم، إلى أن يعوا عظمة الرؤية البورقيبية على كافة المستويات الداخلية والخارجية، وأن يشعروا بالفخر لانتمائهم لأمتهم التونسية، وأن يعوا الأبعاد الاستشرافية الفذة التي كشف عنها الزعيم الخالد الرئيس الحبيب بورقيبة، فيقيهم ذلك شرور الوقوع في المشاريع الدوغمائية، ويحصنهم من الوقوع في براثن الأفكار الرجعية والشمولية، ويساعدهم على التعامل مع أبعاد الهوية الوطنية التونسية، من عروبة وإسلام، بكل ثقة واقتدار، بعيدا عن منطق الخطابات والشعارات التسطيحية. وإن الدولة الوطنية التونسية التي قاد مسيرة بنائها التأسيسي الأصعب، الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة، ملزمة قبل الأفراد، بالقيام بالوظيفة المشار إليها، سواء من الناحية الرمزية، بإعادة صور ومجسمات الزعيم الرئيس إلى الأماكن والمباني الحكومية الرئيسية، كالمطارات والوزارات و غيرها، ليس من باب الاعتراف بأفضال مؤسس الأمة والدولة والجمهورية فقط، بل كذلك من باب غرس قيمة الوفاء في نفوس الناشئة التونسية، وتكريس عادة التقدير على مدى الأجيال لرؤساء الجمهورية المتعاقبين، أو كذلك من الناحية العملية، من خلال إنشاء معهد وطني حكومي للدراسات البورقيبية، وتوجيه وسائل الإعلام الوطنية، وفي مقدمتها التلفزة التونسية، وسائر المؤسسات التعليمية والثقافية، للعناية بالتراث البورقيبي، وتعريف الأجيال الجديدة به، وغرس قيمه فيهم. إن العقيدة البورقيبية، التي قامت على الدعوة إلى "إسلام مستنير و حداثي"، و إلى "عروبة عقلانية وواقعية"، و إلى "اشتراكية اجتماعية منفتحة"، وإلى "ليبرالية متوازنة وعادلة"، هي الكفيلة بحماية الشبيبة التونسية من التيارات الإرهابية والعقائد الديماغوجية، وكافة أنواع التطرف والعنف العاصفة بمحيط تونس القريب والبعيد، وهي القادرة على إعادة البريق والإشعاع والحماسة للعمل الوطني إلى نفوس التونسيين، ومن هنا فإن الحاجة إلى البورقيبية هي بالدرجة الأولى حاجة وطنية مستقبلية، فضلا عن كل اعتبار أخلاقي أكد عليه بصبر وثبات طيلة السنوات الماضية، الأب المناضل محمد العروسي الهاني. لقد تحدثت بعد عودتي من دبي، حيث شاركت في حلقة قناة العربية حول البورقيبية، مع كثير من شباب تونس، الذين لم يدركوا زمن الزعيم الرئيس بورقيبة، وقد لمست تفاجئهم من رؤاه الاستشرافية المميزة ونظرته الثاقبة لقضايا تونس والعالم العربي الرئيسية، وأخبروني بأنهم وجدوا في خطبه المدهشة أجوبة على أسئلتهم الحاضرة..لقد كان بورقيبة في خطابه المرتجل مع القذافي في البالمريوم قبل ما يزيد عن الثلاثين عاما، على سبيل المثال، وكأنه يتحدث اليوم.."كم كان الزعيم الرئيس سابقا لعصره"، هكذا قال لي أحد شباب تونس. إن استكمال المشروع البورقيبي فكريا وسياسيا، لهو في الراهن من أهم الوظائف المطروحة على الدولة التونسية، وخصوصا على حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، وهو الحزب الذي أسسه وقاده الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة لما يزيد عن نصف قرن. و من ملامح استكمال هذا المشروع ما يلي: - استئناف مسيرة تحديث الإسلام، من خلال فتح أبواب التجديد والاجتهاد والبحث والدراسة في التراث والفقه الإسلاميين، وذلك للتصدي للحركات الأصولية والإرهابية ولأصحاب التأويلات المتخلفة والرجعية. - استئناف مسيرة النهضة التعليمية والتربوية، من خلال إقامة ورشات الإصلاح والتفكير وتسخير الموارد البشرية والمالية الكفيلة بتحقيق ذلك، لأن التقدم العلمي هو أساس التنمية الصلبة، مثلما أكد باستمرار الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة. - استنهاض دور الحزب وكافة الهيئات والروابط الدستورية من أجل تجديد العقيدة الوطنية التونسية، وإحياء الآمال والثقة في النفس والقدرة على الإقناع في الشبيبة التونسية. - تنشيط الدور التونسي عربيا ودوليا، خصوصا في قضايا المنطقة الرئيسية، ومنها القضية التونسية، وفقا للرؤية الثاقبة التي بلورها الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة، ودفع ثمنا غاليا في الدفاع عنها والإقناع بها. - إتاحة المجال أمام أصحاب المبادرات الوطنية، للتقدم بآراء وأفكار جديدة من شأنها أن تساعد على مواجهة التحديات الرئيسية المطروحة على الاقتصاد الوطني، وفي مقدمتها مسألة البطالة والفقر والفساد والتفاوت الطبقي، فالعقائد الشمولية والأصولية عادة ما تجد في مثل هذه التحديات بيئة ملائمة لاستقطاب الشبيبة وتوجهيها في مسالك الوهم الوعرة. أما فيما يتصل بمسؤولية المجتمع المدني إزاء العقيدة البورقيبية، سواء تعلق الأمر بالبورقيبيين داخل الوطن أو خارجه، فليس لي إلا أن أشد على يدي الأب المناضل العروسي الهاني في كل ما أشار إليه من مقترحات، آملا أن تسعف الأوفياء الإمكانيات، في عمل كل ما من شأنه أن يحقق حلم الزعيم الرئيس بورقيبة في رؤية تونس قلعة حداثة ومنارة للعلم والعقلانية في محيطها المحلي والعربي والدولي، وفي رؤية الشعب التونسي شعبا راقيا متحضرا آخذا بناصية المعارف والعلوم والتكنولوجيا.