حمل احياء ذكرى وفاة الزعيم الحبيب بورقيبة في طياته جملة من الاستفسارات رقت لدى البعض إلى مرتبة مخاوف ، لا بشأن الفكرة في حد ذاتها وإعادة الإعتبار لشخصية وطنية لها تاريخها و كان لها وزنها وقيمتها في مسار بناء الدولة وأخرجها نظام بن على من الباب الصغير ،وإنما حول المقاصد وطريقة الطرح الرسمي والتناول الإعلامي المكثف والمفتعل أحيانا بكثير من التأليه والتمجيد والتنزيه إلى درجة بات كثيرون يحسون بأن المشهد السياسي في تونس اليوم إزاء تركيز جديد للمشروع البورقيبي كخيار أمثل لتونس ما بعد الثورة بمباركة البورقيبيين الموجودين في الحكومة أو خلف الكواليس. ويتساءل هنا البعض: هل يحتاج فعلا الشعب التونسي اليوم إلى مرجعية الشخص؟ وهل تونس اليوم تمر بنفس المسار التركي ومرجعية كمال أتاتورك من خلال تكريس مبدأ حكم الشخص من القبر؟وهل إعادة الإعتبار لبورقيبة تعنى ضمنيا التشريع لعودة الفكر والمشروع البورقيبي؟ولعل التساؤل الأخطر اليوم هل أن المغالاة في إعادة الإعتبار لبورقيبة في صورة الزعيم والمجاهد الأكبر والمنقذ وحامى الحمى والوطن ورجل الدولة والدبلوماسي الفذ وسابق عصره ...المقصود منها التأثير في المسار السياسي لتونس ليصبح مستقبلا التسبيح للبورقيبية والإيمان المطلق بأفكارها ملاذا لكل الباحثين عن قاعدة حزبية عريضة؟ مخاوف من الرمزية يجيب عبد الوهاب حفيظ أستاذ علم الإجتماع بجامعة تونس ورئيس منتدى العلوم الإجتماعية التطبيقية على جملة هذه التساؤلات بالإشارة إلى وجود مخاوف حقيقية من سعى البعض لاستعمال رمزية بورقيبة ويوضح أنه باعتبار أن الثورة التونسية كانت دون زعامة فكانت هناك نتيجة حتمية للبحث عن زعيم أو أب من منطلق أن التحركات الاجتماعية على مر التاريخ لا تحتمل الفراغ وتصادف ذلك مع موعد ذكرى الحبيب بورقيبة الذي أخرجه الدكتاتور بن على من الباب الصغير. ويضيف عبد الوهاب حفيظ أنه إذا كان احياء ذكرى الزعيم بورقيبة تندرج في إطار إعادة الإعتبار فهذا مشروع"... لكن الرأي العام يشعر اليوم أن التركيز على البورقيبية فيه نوع من الافتعال وخلق توازن رمزي جديد..." ويبين أنه من غير العادي العودة إلى استعمال عبارة المجاهد الأكبر ففيها نوع من التوجيه المفتعل وكأن المجتمع غير قادر على خلق زعامات و قد يكون فيه سعي ضمني للتأسيس لعودة مشروع وحل مشاكل الحاضر من خلال تصفية حسابات الماضي وهو مؤشر غير صحي. انخراط الإعلام في التأليه وحذر عبد الوهاب حفيظ من مخاطر انخراط الإعلام والمفكرين في البحث اليائس عن أب ومرجعية لأن تونس تجاوزت هذه المرحلة ويجب التعامل مع العودة الإعتبارية لبرقيبة بشكل عقلاني دون افراط .ويمكن اليوم إعادة قراءة التاريخ من منظور نقدي نتعلم فيه من أخطاء الماضى ومن بينها أخطاء بورقيبة والحقبة والفكر البورقيبي الكثيرة. ودعا محدثنا إلى عدم غلق الباب أمام أحياء الحاضر لصالح البحث عن أشباح الماضى والسعي لحل مشاكل الحاضر بلغة الحاضر وأبطال الحاضر والفاعلين فيه وفي مقدمتهم الشباب التونسي وأبناء الجهات. من جهته يشير طارق بلحاج محمد مختص في علم الاجتماع التربوي إلى أن الدفاع عن تاريخ الزعيم بورقيبة وفكره التحديثيعلى شرعيته لا سيما في صفوف المؤمنين بفكره أكثر من شخصه لا يجب أن يتحول إلى تمجيد وتأليه يغض الطرف عن بورقيبة الدكتاتور والرافض للرأي المخالف والبارع في تصفية خصومه كما لا يجب التغافل عن نقد أخطائه الكثيرة ولعل أهمها تأسيسه للرئاسة مدى الحياة وربط الدولة بالحزب والحزب بالدولة وهي أخطاء قاتلة في تاريخ تونس فوتت على الشعب التونسي سنوات عديدة ومهدت الطريق لبن على الذي لم ينقلب عن نهج بورقيبة السياسي على مستوى الاستفراد بالحكم وتصفية الخصوم بل كان مجرد انقلاب على قيادة لا غير. البورقيبيون والمؤامرة الفكرية ويضيف طارق بلحاج محمد أن البورقيبيين اليوم الموجودين حاليا سواء في الحكومة أو خلف كواليس الحكومة ومن خلال استشاراتهم مع المجتمع المدني يسعون إلى تقديم المشروع البورقيبي كمشروع منقذ للبلاد في هذه المرحلة مستفدين من مخاوف المجتمع من الخط السلفي بخطابه المعلن وغير المعلن ومن الطرح المبالغ فيه من الليبراليين لملف مجلة الأحوال الشخصية. ويقترح بهذا الصدد محدثنا أن يبتعد البرقيبيون اليوم عن مطامحهم السياسية لأنهم حكموا البلاد بما فيه الكفاية لأكثر من 50 سنة وربما يحتاجهم المجتمع اليوم أكثر في الحوارات والنقاشات الفكرية...ويضيف طارق بلحاج محمد "...لقد ابتز بورقيبة الشعب بأنه منقذ البلاد ومحرر الشعب وابتزها بن على من بعده في صورة صانع التغيير والمخلص فلا تعيدوا(والكلام إلى طارحي المشروع البورقيبي) انتاج نفس المؤامرة الفكرية..." تجدر الإشارة أيضا إلى أن المشرعين لفكرة تعليب النظام والفكر البورقيبي وتقديمه كمنقذ يستندون في طرحهم إلى التصحر السياسي الذي تعرفه تونس وغياب البدائل.وحول هذا الطرح يقول طارق بلحاج محمد إن تونس اليوم إزاء ثورة والثورة تفرض رجالها ومثقفيها وكذلك سياسييها..." وإن كان المشهد السياسي اليوم فيه ارتباك وغوغاء وعدم دربة على الحوار والديمقراطية فتلك أمور ظرفية وإن فسح المجال للكفاءات المستقلة وغير الحزبية عبر قانون انتخابي يأخذهم بعين الإعتبار فسنجد أنفسنا أمام خيرة ما أنجبت تونس في الفكر والثقافة داخل المجلس التأسيسي الذي سيؤسس لجمهورية ثانية لا لتعليب نظام اهترأ على امتداد 55 سنة..."